سوليوود ( المغرب )
حضر فضاء مدينة الدار البيضاء في الكثير من الأفلام السينمائية المغربية التي يمكن الإشارة إلى البعض منها من دون ترتيب زمني، إذ إن الغرض من ذلك، هو تبيان مدى هذا الحضور ليس إلا. وهي أفلام سينمائية مغربية متنوعة حظيت بقبول من لدن المشاهدين من جهة، وتتبعها الكثير من الدارسين والنقاد السينمائيين لما أثارته لدى صدورها من قضايا اجتماعية أو فكرية أو فنية، من جهة أخرى. هذه الأفلام هي «بيضاوة» و «حب في الدار البيضاء» للمخرج عبدالقادر لقطع، و «الدار البيضاء باي نايت»، و «الدار البيضاء داي لايت» للمخرج مصطفى الدرقاوي، و «الدار البيضاء يا الدار البيضاء» للمخرجة فريدة بنليزيد، و «وليدات كازا» للمخرج عبدالكريم الدرقاوي و «كازانيكرا» للمخرج نور الدين لخماري وغيرها من تلك الأفلام المغربية التي شكلت مدينة الدار البيضاء فضاء لها حتى وإن لم يتم وضع اسم هذه المدينة على مستوى عناوين هذه الأفلام السينمائية كما في أفلام المخرج هشام العسري على سبيل المثل لا الحصر طبعاً كما ذكر موقع الحياة .
حيرة الباحث
أمام هذا الكم الكبير من الأفلام السينمائية المحلية التي تطرقت إلى مدينة الدار البيضاء وجعلتها فضاءً لها، يحار الباحث والناقد السينمائي في عملية الاختيار بينها، بغية جعل أحدها محط الدراسة والتركيز على فضاء المدينة وتجلياتها فيه، أو جعل فضاء مدينة البيضاء مبتغى الدراسة والبحث في كل هذه الأفلام السينمائية؛ وصولاً إلى المقارنة بين تجلياته فيها جميعاً، وهو ما يتطلب تأليف كتاب أو أكثر. وهنا السؤال العسير بحسب تعبير هاملت في مسرحية وليم شكسبير الحاملة اسمه.
مدينة سينمائية
إذا كان فيلم «حب في الدار البيضاء» ينفتح على الفضاء البحري لمدينة الدار البيضاء، وهو فضاء خارجي مفتوح، حيث يتم التركيز على الشخصيات وهي ترتدي ملابس البحر، فإن ما يلي ذلك هو أنه تتم عملية تبئيرها داخل فضاء داخلي هو فضاء المنزل البحري (كابانو) حيث نبدأ في التعرف إليها والاقتراب من عوالمها الخاصة. ثم بعد ذلك، ينفتح الفيلم على الفضاء الخارجي للمدينة، حيث تجتاز السيارة شوارع الدار البيضاء، فتبدو معالم البنيان وتتجلى صورة الحاضرة شيئاً فشيئاً. وهو ما يشكل وثيقة بصرية لهذه المعالم، ويقدم بالتالي وثيقة جمالية فنية لها، ستتحول مع مرور الزمن إلى وثيقة تاريخيه لهذه المعالم ذاتها. في المقابل، نجد فيلم «الدار البيضاء ليلاً» لمصطفى الدرقاوي ينفتح على فضاء شوارع الدار البيضاء ليلاً عبر تتبع مسار سيارة تخترق هذه الشوارع فتبدو معالم المدينة متوهجة بالأضواء. وتركز الكاميرا في مرورها البانورامي هذا على فضاء مسجد الحسن الثاني، ومنه على الفضاءات الأخرى مثل فضاء وسط المدينة، حيث تتجلى صورة رمز الكرة الأرضية بارزاً وفي أوج لمعانه الفني كما يتجلى فندق «حياة ريجنسي» واضحاً. هنا، يبدو فضاء الشوارع مليئاً بالسيارات والحافلات ما يدل على أن الدار البيضاء لا تنام في الليل مثلها في ذلك مثل المدن الكبرى في العالم. وتستمر الكاميرا في تصوير معالم المدينة في شكل بانورامي، ثم بعد ذلك ينتقل التركيز على صورة فضاء المدينة القديمة (باب مراكش) حيث تتم عملية تبئير سيارة الأجرة الصغيرة (تاكسي الأحمر) وهي تخترق أزقتها الضيقة. وهنا، تحديداً، يبدأ ظهور شخصيات الفيلم . ولا بد من الإشارة إلى أن جولة الكاميرا في بداية هذا الفيلم بين فضاءات مدينة الدار البيضاء المشار إليها، تعتبر من بين أجمل الصور السينمائية التي أخذت لهذه المدينة. وهي صور ستظل دليلاً قوياً على سحر السينما وقوة الجمال الفني الذي تقدمه للحفاظ على التاريخ العمراني للمدن التي تختارها كفضاء لأحداث أفلامها.
«الدار السوداء»!
وفي بادرة أثارت في وقتها كثيراً من المداد، لجأ المخرج نور الدين لخماري إلى تقديم فضاء مدينة الدار البيضاء في شكل مختلف عما ورد في الفيلمين السابقين، بحيث تحولت المدينة حتى على مستوى عنوان الفيلم السينمائي الذي قدمه من «كازابلانكا» إلى «كازانيكرا»، أي أنه إنما كان يسعى إلى تقديم ما يعتبره الوجه الآخر لمدينة الدار البيضاء. الوجه الأسود، حيث المشكلات، وحيث الوضع الصعب الذي قد يعيشه بعض أهلها. وهو ما جعل فيلمه هذا يسير في إطار الواقعية السينمائية على خطى ما فعله المخرج الأميركي سكورسيزي في أفلامه السينمائية التي قدمها عن مدينة نيويورك. ونظراً إلى نجاح فيلم نور الدين لخماري هذا، وفق منظوره السينمائي المختلف، نراه وقد حاول السير وفقه مع الرغبة والحرص على التجديد في فيلمه الآخر «زيرو» الذي هو في شكل من الأشكال يكاد يشكل جزءاً ثانياً من مشروعه السينمائي الفني حول مدينة الدار البيضاء، ثم من بعده فيلمه الأخير الذي اختتم به هذه الثلاثية البيضاوية والذي حمل عنوان «بورن أوت».
ينفتح فيلم الخماري هو الآخر إذاً، على صور لمدينة الدار البيضاء تأتي عكس الصور المقدمة في الفيلمين السابقين على شكل صورة ثابتة. صور تظهر البنايات الشاهقة للمدينة وهي في هدوء تام، حيث لا حركة تبدو فيها. وهذا قبل أن يتم التركيز على فضاءات أقل علواً، وهي فارغة من الناس كسابقاتها. وتظهر لنا عملية الانتقال هذه أوجه الاختلاف بين أنواع هذه الفضاءات المقدمة. بعدها، تبدأ عملية تقديم الصور المتحركة، حيث يبدو كلب وهو يبحث في حاويات القمامة عما يأكله. بعده مباشرة يتم تقديم الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم عادل وكريم وهما في حالة فرار.
هكذا، ومنذ البداية، نلاحظ الاختلاف الواضح في الصور المعبّرة عن هذه المدينة، حيث نجد أنها تقدم في شكلين مختلفين، شكل إيجابي حيث البحر وسحره وحيث فضاءات الترفيه؛ وشكل سلبي، حيث فضاءات القمامة والسرقة.
فضاءات للحب… وللصراع
وفي خضمّ ذلك، ووفقاً للتسلسل السردي لهذه الأفلام الثلاثة، كل فيلم منها مأخوذاً على حدة، تبدو الفضاءات الداخلية للمدينة مكاناً للحب تارة ومكاناً للعنف تارة أخرى. ففي «حب في الدار البيضاء» تطالعنا فضاءات خاصة للعلاقات العاطفية بين سلوى وعشيقها الكهل، من دون أن ننسى فضاء الموت في نهاية الفيلم. وفي فيلم «كازانيكرا»، يتم التركيز على فضاءات العنف والسرقة، أما في فضاء «الدار البيضاء ليلاً»، فيتم التركيز على فضاء الأحياء الشعبية في مقابل فضاءات الملاهي والشخصيات المرتبطة بها. ومن خلال اختلاف هذه الفضاءات يتم تقديم الشخصيات، حيث كل واحدة منها تعبر عن الفضاء الذي تعيش فيه، والذي تشبعت بصفاته وخصائصه، ما يولد الصراع الدرامي ويوصله إلى منتهاه. هذه الشخصيات التي تختلف حسب مستواها الاجتماعي من حيث الفقر والغنى تارة، وحسب مستواها العلمي، حيث المعرفة بالنسبة إلى لبعض منها، وحيث الجهل بالنسبة إلى البعض الآخر تارة أخرى.
في اختصار، يمكن الاستنتاج من نظرات هذه الأفلام الثلاثة هنا، أن فضاء مدينة الدار البيضاء فضاء متنوع وغني باختلافاته ورؤى الشخصيات. وهذا بالتالي، ما منح هذه الأفلام قوتها التعبيرية على الرغم من كونها لم تستطع القبض عليها كما هي تماماً، إذ إن كل فيلم سينمائي منها يعبر عن رؤية مخرجه حول فضاء هذه المدينة وكيفية تجسيده في الشكل السينمائي الملائم له.