سوليوود ( السعودية )
إبراهيم الملا
ثلاثون دار عرض سينمائي من المتوقع أن تفتح صالاتها لمحبي الأفلام والشغوفين بها في مختلف أنحاء المملكة العربية السعودية خلال المرحلة المقبلة، خبر يعكس الاستراتيجية الطموحة للمملكة، وهي تحتفل بيومها الوطني من أجل تخطي سنوات طوال من الانقطاع والانفصال عن منتج إبداعي فائض بالرؤى الفنية والقصص الإنسانية والأساليب التعبيرية، خبر يفتح أفقاً ثقافياً جديداً في مكان لا يزال متعطشاً لثراء بصري يوازي الثراء التاريخي والجغرافي والروحي الذي تتمتع به المملكة، والموثّق في العديد من المخطوطات والدراسات والكتابات التي تصدى لها الرحالة والمؤرخون والشعراء والروائيون من داخل شبه الجزيرة العربية، ومن خارجها منذ عصور وأزمنة بعيدة.
ولعل الاهتمام منقطع النظير بالفنون البصرية في المملكة مؤخراً، وفي مقدمتها فن السينما، هو اهتمام مرصود من قبل شريحة واسعة وممتدة من الجمهور السعودي المتلهّف لواقع ثقافي واجتماعي جديد يفتح أفقاً للتعدد الثقافي، هذا التعدد الذي يتيح للثقافة أن تتنفس، وللوعي أن ينمو، وللذائقة أن تتفرع، ذائقة سوف تشمل طرائق تعبير متنوعة، كالفنون التشكيلية والفلسفة والأدب والمسرح والدراما التلفزيونية والأفلام الموزعة على أشكال خلّاقة ومبتكرة كالفيلم الروائي القصير، والفيلم الروائي الطويل والفيلم التسجيلي، وغيرها من الأفلام المعتمدة على وسائل التواصل الحديثة، ومنصات العرض المتاحة على الشبكة العنكبوتية.
الجدير بالذكر، أن عودة السينما للمملكة لم تتأسس على فراغ، بل على بعث وإحياء لنمط اجتماعي طبيعي مرتبط بظاهرة ثقافية ديناميكية انطلقت شرارتها في الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما كان التواصل مع الثقافات القريبة والبعيدة هو نسق ومقياس تطور المجتمعات وتحركها الإيجابي نحو المستقبل.
تقاليد سينمائية
ظهرت التقاليد السينمائية في المملكة مع بداية نشوء وتكوّن الشركات الكبرى، ومن أهمها شركات التنقيب عن النفط التي استقطبت خبراء من الخارج وعمّالاً من الداخل، وكانت العروض السينمائية إحدى وسائل الترفيه المرغوبة من قبل موظفي تلك الشركات، وفي مقدمتها شركة: «كاليفورنيا العربية للزيت القياسي» التي تحول اسمها بعد ذلك إلى شركة «أرامكو»، هذه الشرارة الأولى لولادة طقس الفرجة السينمائية في السعودية، وفي فترة تاريخية مبكرة بالمنطقة، جعلت السكان القريبين من هذه الشركات يتعرفون إلى مصطلحات ثقافية جديدة في أوج الثورة الصناعية التي اجتاحت أوروبا وأميركا ودول أخرى في شرق العالم وغربه، ثورة لم تخل أيضاً من نقلة معرفية هائلة انتقلت تردداتها إلى الكثير من الدول البعيدة عن مركز هذا التحول العالمي الباهر، فكانت الأفلام الصامتة التي أسس لها الأخوان لوميير في فرنسا منطلقاً لأعمال سينمائية استفادت من التطور التقني في مجالات التصوير والإضاءة والمونتاج والتي سرّعت وتيرة الإنتاج السينمائي، وخلقت واقعاً فنياً جديداً استفاد من إرث المسرح والرواية والسرد والفن التشكيلي، وكسب في الوقت نفسه مكانة مستقلة وسط هذه الفنون العريقة.
وتشير المدونات التاريخية إلى أنه خلال فترة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات الميلادية، بدأت تنتشر في مناطق السعودية دور العرض بين السكان المحليين، وكانت صالات العرض المتاحة للمواطنين السعوديين موجودة في الأندية الرياضية المحلية على وجه التحديد، وفي بعض الأحواش والبيوتات الشهيرة، خاصة في الرياض وجدة والطائف وأبها والدمام، وأحياناً في بعض السفارات الأجنبية، إلا أنه – وحسب وصف هذه الوثائق التاريخية – «كان عرضاً عشوائياً يفتقد التنظيم والتهيئة اللازمة للمشاهدة والتسويق المناسب، والاختيار الجاد».
وتتضمن الوثائق المتتبعة لمسيرة السينما السعودية معلومات مهمة تشير إلى أن أول فيلم سعودي أنتج عام 1950 حمل عنوان «الذباب»، وهو من بطولة حسن الغانم الذي يعتبر أول ممثل سينمائي سعودي، وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي قام التلفزيون السعودي بإنتاج أفلام تلفزيونية، لكن البداية الحقيقية للإنتاج السينمائي السعودي كانت عام 1966، حيث أنتج فيلم «تأنيب الضمير» من إخراج سعد الفريح وبطولة الممثل السعودي حسن دردير، وفي عام 1975 قام المخرج السعودي عبد الله المحيسن بإخراج فيلم تسجيلي عن (تطوير مدينة الرياض)، وشارك به في مهرجان الأفلام التسجيلية في القاهرة عام 1976 قبل أن يقدم من جديد عام 1977 فيلماً وثائقياً تمتّع بحس تسجيلي قريب ومتماه مع أحداث ووقائع حقيقية ومؤثرة وهو فيلم (اغتيال مدينة) الذي تناول الحرب الأهلية اللبنانية من جانبها الإنساني المؤلم الذي شوّه معالم مدينة بيروت عاصمة التنوير الثقافي العربي قبيل اندلاع الحرب، وحاز الفيلم حينها جائزة (نفرتيتي) لأفضل فيلم قصير، وتم عرضه أيضاً في مهرجان القاهرة السينمائي عام 1977.
وتؤكد الوثائق السينمائية أن عدد الأفلام السعودية التي أنتجت منذ عام 1975 وحتى عام 2012 قد بلغ (255) فيلماً سعودياً، معظمها أفلام تسجيلية أو قصيرة وبميزانية محدودة ومنخفضة التكاليف، ولم تعرض إلا في المسابقات والمهرجانات، سواء المحلية أو العربية أو الدولية للمنافسة على الجوائز المختلفة، والقليل منها كان تجارياً وبميزانية ضخمة وعُرض بصالات السينما. وتنوعت ما بين أفلام وثائقية وأفلام قصيرة وأفلام روائية، ومن ناحية نوع المحتوى إلى أفلام رعب وأفلام أكشن وأفلام كوميدية وأفلام صامتة وأفلام خيال علمي وأفلام تلفزيونية وأفلام تحريك تعتمد على التقنيات الحديثة.
الفانوس السحري
يذكر المؤلف خالد ربيع السيد، صاحب أول كتاب سعودي عن السينما بعنوان «الفانوس السحري: قراءات في السينما»، أن السينما السعودية قديماً كانت تشمل أفلاماً تسجيلية تنتجها شركات النفط في المنطقة الشرقية لتوثيق عمليات التنقيب، بجانب توثيقها لمظاهر الحياة الاجتماعية في تلك الفترة، مضيفاً أن السفارات الأجنبية في المملكة كانت أول من فتح أبوابها لمحبي السينما من أبناء الشعب السعودي، بالإضافة إلى سينما «باب شريف» و«أبو صفية» في جدة، أما مدينة الطائف فقد كانت قاعاتها عبارة عن فناء واسع لأحد المنازل أو أرض فضاء يتم وضع بعض الكراسي وشاشة للعرض السينمائي فيها.
وفي نهاية السبعينيات، حدث تراجع كبير في الرصيد التأسيسي لفن السينما، وبالتالي فإن الارتباط الوحيد بالسينما جاء من خلال جهود المؤسسات الثقافية، ومن خلال الفنانين والمخرجين السعوديين الذين درسوا وعملوا في الخارج، وكانت بعض المساهمات السينمائية مرتبطة بممثلين موهوبين ذهبوا للمشاركة في أفلام عربية كانت تنتج في القاهرة وبيروت كنوع من الإشباع الفني لهذه المواهب المبكرة في تاريخ السينما والدراما السعودية.
ويمكن الإشارة إلى أن العام 2006 كان بمثابة منطلق لحراك سينمائي حقيقي ومتجاوز للمرحلة السابقة عندما قامت بعض الأندية الأدبية والمؤسسات الثقافية بتنظيم عروض سينمائية، يغلب عليها الطابع النخبوي لارتباطها بمهرجانات مهتمة أساساً بالأفلام المستقلة وذات المحتوى الفني المكثف البعيد عن هوى الأفلام التجارية، ونذكر من هذه الجهات الفاعلة سينمائياً النادي الأدبي في المنطقة الشرقية بمدينة الدمام التي اعتمدت على جهود مثقفين وشعراء وممثلين سعوديين مثل الشاعر أحمد الملا، والممثل إبراهيم الحسّاوي المتميز بأدواره المركبة، سواء في الأعمال الدرامية التلفزيونية أو في الأفلام القصيرة التي لقت صدى إيجابياً في معظم المهرجانات الخليجية والعربية التي شاركت بها، حيث يشرف الحسّاوي اليوم على «بيت السينما» الأشبه بالمظلة الحاضنة للسينمائيين الشباب في السعودية ولأفكارهم وتصوراتهم ونقاشاتهم المفضية دون شك إلى خلق حالة من الجدل السينمائي الخلّاق في سبيل إنتاج أعمال سينمائية مستقبلية أكثر نضجاً وتماسكاً، مقارنة بما تم تقديمه في المراحل الأولى والمبكرة من تاريخ الإنتاج السينمائي في المملكة.
وفي العام 2008، تصدى الفنان السعودي المعروف فايز المالكي لأداء دور الشخصية الرئيسة في فيلم «مناحي» الذي تم عرضه في صالات السينما بدول الخليج، ورغم الآراء النقدية المتفاوتة حول الفيلم، إلّا أن ظهوره شكّل تحديّاً وإصراراً على خوض غمار العمل السينمائي في ظروف صعبة ومعيقة لأي حالم بإنتاج فيلم روائي طويل في تلك الفترة، ومع ذلك استطاعت الشركة المنتجة للفيلم أن تعرضه في مسرح الملك فهد بجدة، وتبعته بعروض أخرى في الطائف والرياض وأبها وجازان.
وقبل نحو عام من الآن، وبالتحديد في ديسمبر 2017، وافق مجلس إدارة الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع في السعودية، على إصدار تراخيص للراغبين في فتح دور للعرض السينمائي بالمملكة، الأمر الذي دفع الناقد السعودي رجا ساير المطيري للتعبير عن تفاؤله بالمرحلة المقبلة، وعن انطباعه حول أول فيلم سينمائي يعرض في السعودية خلال الألفية الجديدة، وهو فيلم «النمر الأسود» الذي تم عرضه هذا العام، ولقى تجاوباً هائلاً من الجمهور المحلي، يقول المطيري «هذه أول مرة أكتب فيها عن فيلم شاهدته في صالة سينما سعودية، ولهذه الكلمات وقعها الخاص وطعمها اللذيذ الذي لم أكن أتوقع أن أتذوقه في يوم من الأيام».
الواقع السينمائي الجديد بالسعودية يشيء بوعود زاهية لانطلاق عجلة الإنتاج السينمائي المحلي في المملكة خلال السنوات القادمة، إنتاج سوف يضيء دون شك على خزين كبير من المواهب والإبداعات والأفكار التي تنتظر فرصاً ذهبية مثل هذه الفرصة التاريخية، وهذه اللحظة الفارقة كي تعبّر عن صوتها الخاص وتقول إن مستقبل الثقافة في المملكة، وتحديداً الثقافة السينمائية هو مستقبل واعد وكبير واستثنائي لا يمكن التفريط به الآن، وفي هذا التوقيت المليء بالتحولات الإيجابية والمشرقة.