سوليوود (إصدارات)
في منتصف القرن العشرين ترك غابريل غارسيا ماركيز كولومبيا وذهب إلى ايطاليا لتعلم السيناريو في المركز التجريبي للسينما في روما؛ هناك درس السيناريو قبل أن ينشر الرواية..ينتقد مدارس تعليم السيناريو التي فيها دكاترة يحاضرون بفخامة عن التاريخ الاجتماعي الاقتصادي للسينما، وعن نظرية اللغة الفيلمية. وكان الطلاب يبقون جامدين تترنح رؤوسهم من النعاس، والسبب حسب ماركيز أن ذلك لم يكن سيناريو ولا أي شيء، بل كان محاضرات مطولة مضيّعة للوقت…
وبعد سنوات من نقد تلك الدروس قدم ماركيز بديله عمليا، وهو عبارة عن ورشات سيناريو نشرت في ثلاثة كتب، هي “كيف تحكى الحكاية” و”نزوة القص المباركة” و”بائعة الأحلام”. ولاحقا جمعت هذه الكتب في مجلد من 584 صفحة، وصدرت عن دار المدى بترجمة صالح علماني.
“إن فيلما عن الحب والموت والحياة يباع جيدا”
يتمثل بديل ماركيز لتجاوز الدروس النظرية في ورشة إنتاج إبداعي..يدير الورشة التي يشارك فيها موهوبون جرى انتقاؤهم لتجربتهم السابقة في السينما والتلفزيون، يتحدثون ويصغي لهم ماركيز ويتدخل في اللحظات الحاسمة..يطرح أسئلة أعمق من كل الأجوبة.
يقول ماركيز: “إن مسألة هذه الورشة قد تحولت لدي إلى إدمان؛ فالشيء الوحيد الذي رغبت في عمله في حياتي هو رواية القصص”، ص 259؛ ويشرح أن الورشة تساعد على تتبع عملية الإبداع خطوة خطوة بقفزاتها وتقهقرها بفضل ذهاب وإياب المخيلة قبل الإمساك باللحظة الدقيقة التي تنبثق فيها الفكرة..
ويضيف أن للحكاية أصولا في ألف ليلة وليلة وفي الأسواق المراكشية حيث يمارس الحكي باستمرار في ورشة؛ لكن السيناريو مختلف، فكتابته عمل تقني إلى حد بعيد..يقول إن فيلما عن الحب والموت والحياة يباع جيدا؛ لأن هذا الثلاثي هو مصدر الدراما..
ويعلن: سنكتب قصة تجارية لتسلية مشاهدي التلفزيون، وأنه يمكن تعلم تقنية كتابة السيناريو. ويؤكد ماركيز أن الورشات تقام للذين لا يقولون: لدي فكرة عظيمة لن أكشفها لأحد. لهؤلاء المتعاونين فقط، يجيب الكتاب عن سؤال هائل: كيف تبني الخطوط المتوازية للقصة؟ كيف تكتب سيناريو؟
يجيب:
بالبحث عن مشاهد جديدة لتجنب التشابهات، لتجنب المشاهد التي رآها المتفرج سابقا، لذلك فالأولية ليست للعقل بل للانفعال العاطفي. ويجب أن يعرف المشاهد منذ البداية طبيعة ما يراه، هل هو دراما أم كوميديا؟ قصة مدينية أم ريفية؟ لتكن الكوميديا مجموعة من الورطات للشخصية.. بتجنب القصص التي تحاول إثبات مقدمات معينة. المقدمات خطرة وتقديم الحركة فعليا أفضل من شرحها..
يستشهد بأرسطو: “لا تروي ما حدث وإنما ما يمكن أن يكون قد حدث”، ويؤكد أن القصص لا تبنى على القاعدة وإنما على الاستثناءات؛ فلابد من حدث مفاجئ في البداية للاستحواذ على اهتمام المُشاهد.. “السينما تحب المبالغة”. ابدأ بحدث خاص، استثنائي..ابدأ بلحظة تحول..ابدأ بصدفة ثم اصعد..لا تبدأ بنقطة عالية ثم لا تجد الشخصيات ما تفعله بعد تلك النقطة.
غرام واحد من الجنون
“علينا أن نبدأ بخط تطوير بسيط جدا ثم نمضي في تعقيد الأمور شيئا فشيئا مثل شجرة تنمو معوجة”.. ومع نمو الشجرة سنرى ما سنسميها. يقول ماركيز: ليس من الجيد وضع العنوان مسبقا؛ فالعنوان الجيد تقدمه القصة نفسها..مع تصاعد القصة يمكن العثور على عنوان أفضل.
ما هو الحدث الصاعق الذي يمنع المتفرجين من مغادرة السينما؟..
يتابع ماركيز تعليماته للكاتب: ابدأ بمشهد خطّاف يخلق جوا من الترقب ويثير مجموعة من التساؤلات. امنح انطباعا بأن هناك شيئا ما على وشك الوقوع. اخلق توقعات لدى المشاهد واعمل على إشباعها في ما بعد.. هذا هو التشويق. التشويق هو سلسلة من المصادفات المشوقة بحيث لا يكون لدى المتفرج وقت ليرمش.
اكتب ما تريد شرط أن يكون مقنعا. من الأفضل في بداية الكتابة أن يتم الاعتماد على التجارب الواقعية، وعندما تنفد التجارب ننتقل إلى التخييل. يشرح ماركيز: “يجب على المرء ألا يكتب حول ما لا يعرفه أو ما لا يشعر به كشيء شخصي”؛ لكن يقترح غرام جنون لتجنب استنساخ الواقع ويطالب “بلمسة خاصة، من خلال غرام واحد من الجنون تحتويه كل قصة من قصصنا”.
يتابع ماركيز: لا تكتب فيلم أطروحة يريد أن يقول كل شيء. احك فحسب. منذ البداية، لا يجب أن تكون المعلومات تلقينية بل درامية. تجنب الغرور، “لو أن أحدنا أبدى رضاه عن المشهد الأول يخرج خاسرا”. لا تقبل إيحاءات مبكرة في القصة؛ لذا يجب امتلاك وجهة نظر والتطلع عاليا لمحاولة الوصول بعيدا لإنجاز سيناريو مثالي وللنجاح في الإبداع.
الكتابة تخطيط أيضا، لذا ففيها يجب تحديد خط عمل واضح ثم المضي بعد ذلك بتعقيده من خلال المعالجة الأولى. ويجب أن يكون هذا التعقيد متصلا، فالقصة شيء عضوي وله مفاصل. تنبع العضوية من السببية ومن الغاية، لذا لا تترك أحداثا كثيرة للمصادفة. تحكّم في مصير الأحداث وفق مبادئ، ومن تلك المبادئ مثلا: مرتكب الجريمة لا ينجو.
في كل ما سبق يجب التركيز على سرد الأحداث لكي لا يكون الفيلم مجرد حوارات في غرفة. حين يكثر الحوار في فيلم ما فما لديك هو فكرة وليس قصة.
يستمر ماركيز في مخاطبة كاتب السرناريو: احرص على التشويق عبر طرح السؤال: ما النقطة الغامضة التي تبقي الصراع نابضا؟.
لا بد من عنصر توتر في القصة شرط وجود مبرر للتوتر، أي مسوغ للصراع. ما الذي يجري القتال حوله؟ بفضل هذه الأسئلة لن يتشتت معد القصة. تمثل الشخصيات جنود السيناريست، ويجب أن تواجه أهدافا وتحديات ومقاومات.
ولا بد لكل شخصية من خصم متوسط وخصم كبير. كما يجب أن تحقق الشخصيات أهدافها بطريقة مقنعة، أي دون تعسف، دون أخطاء دراماتورجية. من تلك الأخطاء التوفر على شخصية ومحاولة بناء سيناريو يلائمها؛ لذلك يحذر من لديه شخصية ويريد كتابة سيناريو بينما لا يتوفر على قصة.. وهنا تأكيد على أن القصة أولا، وبعدها تأتي الشخصية. يجب تقديم القصة من وجهة نظر إحدى الشخصيات، لكي تحكي الكاميرا بعينيها.
ويقترح ماركيز تجسيم العلاقات بين الشخصيات، أي توضيح ما هو عنصر الجاذبية أو التنافر بين الشخصيات؟ الاسم جزء من الشخصية..أثر الشخصية، امنحها هدفا ومزاجا، لتصدر أفعالها وردود أفعالها عن ذلك المزاج. ومن هنا صغ مصيرها. ما علاقة الشخصية بنفسها؟ ما مظهرها الجسدي؟.
يجب ذكر سن الشخصية ولباسها وعملها لمساعدة مسؤول الأكسيسوار. ليكن الغنى البصري للشخصيات على مسافة مليمتر من الواقع. وفي الحوار يجب توصيف الشخصية على مستوى النبر والمعجم. لتكن حوارات كل شخصية شيقة وإخبارية ومؤثرة، ولتحقيق ذلك يجب تطوير مواقف الشخصية، تطوير أحاسيسها، تطوير وضعها الطبقي… يلاحظ الكاتب الكولومبي أن “الناس يفضلون الأوغاد”، لكنه يفضل شخصيات مهمشة على شخصيات متفوقة ناجحة. ما نوع الحل في النهاية؟ واقعي؟ قاس؟ سعيد؟ لا تترك شخصياتك دون مصير محدد. لكن هذا لا يكفي، لماذا؟
الجواب: تحتاج هذه الشخصيات إلى ممثلين جيدين. يقول ماركيز: “هناك عملية تغلغل سيكولوجية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال إدارة جيدة للممثلين، وبواسطة ممثلين من الدرجة الأولى”.
رغم أهمية الشخصية فالقصة أهم منها. القصة بحاجة إلى تماسك وتشويق وتتابع؛ لذا يحذر ماركيز من الفلاش باك، يسأل مساعديه متحديا: لماذا لا تروون القصة بتسلسلها السوي أولا؟.
الفلاش باك استسهال للبحث. إن اللجوء للفلاش باك أشبه بالاستغناء عن التخييل. “في السينما لا وجود إلا للزمن الحاضر”.. يقول لهم: احكوا القصة في الحاضر بصورة متصاعدة. صفوا كل مشهد في موقعه لأنه لا بد من وضوح تتابع الأحداث كي لا يسهو المشاهد.
المادة والبناء
يضمن هذا الوضوح والتتابع إنشاء بناء سردي متماسك، إذ يميز ماركيز بين المادة والبناء.. أولا يقترح جمع المادة والأحداث ويعلق: “يجب أن ندخل المواشي للحظيرة ثم نرى ما سنفعل بها”؛ بعدها يقترح التقدم خطوة خطوة لكي لا تتراكم الأحداث..التدرج مهم. يضيف: “خوفي هو من تشتت الفيلم في اتجاهات عديدة ويفلت من بين أيدينا مثل دفقة ماء”.
الحل؟
لا يمكن حل كل شيء دفعة واحدة. ودائما يجب توصيف السياق. يوجّه: حدد عدد المشاهد لتوضح تطور كل عاطفة. نوع المشاهد بين داخلي وخارجي لتهوية الفيلم بصريا. ليكن لديك أربعون مشهدا خارجيا وستون مشهدا داخليا على أن تتناوب.
ولتنويع الإيقاع يوجه ماركيز كاتب السيناريو بأن يفصل بين مشاهد الصراع بخلق زمن ميت لتصوير الحياة اليومية والجو العام للأحداث، كما يوصي بتجنب تقديم مشهدين متتابعين في ليلتين لأن المتفرج سيظن أن الحدث جرى في الليلة نفسها.
هنا يظهر وعي ماركيز بالزمن وهو يقول: “أنا أؤيد جلوس كتاب السيناريو لممارسة المونتاج على المافيولا” (المافيولا هي طاولة المونتاج التقليدية قبل ظهور المونتاج الرقمي)، ويشرح أن المونتاج هو ظاهرة التوالي السردي.. يستشهد بقولة أستاذته في روما: “دون معرفة قوانين المونتاج – وهي بمقام علم النحو السينمائي – لا يمكن لكتاب السيناريو أن يكتبوا مشهدا واحدا صحيحا”؛ فالمونتاج يعلّم كيفية استمرار القصة الفيلمية. اللقطات تدفق متواصل والعالم لا يتوقف وكذلك تسلسل الأحداث.
المصدر: أخباري نيوز