الأهم في اعتقادي ليس فقط انتشار دور السينما في السعودية، وإنما في قدرتنا على توظيفها بصورة صحيحة تعزز صورتنا الذهنية وهويتنا الوطنية لدى العالم أجمع. قبل أكثر من تسع سنوات كتبت مقالا عن أهمية السينما وتوظيفها في تعزيز الصورة الإيجابية عن المواطن السعودي وأثرها كقوة ناعمة “قبل إنشاء دور السينما في ذلك الوقت”، ولعل افتتاحها يحفزنا للحديث عن أهمية دورها في إبراز هويتنا الوطنية للعالم. مع الأسف، أن بعضهم حاول أن يقلل من أهمية السينما، وأن “بروجكتر” وجدارا يمكن أن ترى من خلالها أفضل الأفلام! ولم يعلم أن افتتاح السينما سيسهم في بدء صناعة السينما وإنتاجها محليا، وهو المهم في اعتقادي إذا تم توظيفها بصورة صحيحة.
قد نتفق أن تأثير السينما في عقلية المتلقي أقوى بكثير من تأثير الخطب أو المحاضرات أحادية التأثير. فالمحاضرات تستقطب ـــ عادة ـــ شريحة محددة، وقد يكون المضطرون لحضورها طلبة الجامعات أو المختصين في جوانب دقيقة لا تمثل الطبقة العامة من المجتمع، لكن السينما ليست فقط تستقطب الكبار والصغار، والمثقفين وغير المثقفين، والنساء والرجال والأطفال، وإنما تحفزهم على دخول صالات السينما وهم في حالة فرائحية “ويدفعون مبالغ نظير ذلك”، وذهنية جاهزة لمشاهدة الفيلم المنشود. لذا، فمن الطبيعي أن تكون المرجعية الإدارية لصناعة السينما لدينا، من حيث منح التراخيص وخلافه، هي وزارة الثقافة والإعلام وليست هيئة الترفيه، لأن السينما تقدم رسالة ثقافية في إطار ترفيهي.
عندما كنت في أمريكا، وقبل أن أنخرط في دراسة الماجستير، سنحت لي الفرصة لدراسة مادة عن الأفلام الأمريكية. لقد استوقفتني كثيرا العبارة التي ذكرها مدرس المادة من أن بعض الأفلام لها رسالة خفية تخاطب العقل الباطن للمتلقي، وقد لا تترسخ هذه الرسالة إلا بعد انتهاء الفيلم بفترة. بل إن المشاهد للفيلم قد يرفض ـــ أحيانا ــــ بعض المفاهيم والقيم التي يعرضها الفيلم، وإن استمتع بمشاهدتها، لكنه بعد بضعة أسابيع تتغير مقاومته ويبدأ بتقبلها ذهنيا بصورة تدريجية. لا أريد أن أفسد لدى القارئ استمتاعه بمشاهد الأفلام، لكن ما قد لا يعيه بعضهم، أن لكل مشهد في الفيلم هدفا أو مجموعة أهداف يتم ربطها بالهدف الرئيس للفيلم.. بل إن بعض الأفلام قد يتطلب الإعداد لها من قبل مستشارين في قضايا مرتبطة بالقضايا التي يطرحها كل فيلم وطبيعته، سواء في الجوانب القانونية أو المعرفة التاريخية، أو السياسية، أو الاجتماعية والسياحية، فضلا عن الجوانب النفسية والفنية وخلافه.
لقد استطاعت صناعة السينما في أمريكا أن تصنع أحداثا وأبطالا وتبرز شعوبا وثقافات، كما استطاعت تلك الأفلام أن تزرع صورة سلبية ـــ في الغالب ــــ عن شعوب أخرى. ولعل قارئ هذا المقال، والمتابع للأفلام الأمريكية، يقر أن خلفيته الثقافية عن بعض الشعوب نتاج مشاهدة بعض تلك الأفلام. فالصورة النمطية التي نعرفها عن بعض الشعوب، كالروس والصينيين واليابانيين وحتى العرب، تم طبخها ذهنيا من جراء مشاهدة مسبقة لتلك الأفلام. كما أن رسائل الأفلام الأمريكية أيام الحرب الباردة قد تختلف شكلا ومضمونا عن رسائلها في وقتنا الحديث.
تبرز أهمية السينما أنها تعزز صورة ذهنية عن أشكال الشعوب، من خلال شكل الممثل أو الممثلة متقمص الدور في الفيلم. فالصورة الذهنية والنمطية لأبطال هوليود تعكسها شخصية الأمريكي الأبيض صاحب العيون الزرقاء أو الحسناء الناعمة ذات الشعر الأشقر. فالمحافظة على هذه الصورة النمطية يجب أن تبقى ثابتة في عقل المشاهد للأفلام الأمريكية. هذه الصورة لا تتعارض مع سعي الأفلام الأمريكية ــــ في الجانب الآخر ـــ على تعزيز التنوع الثقافي والعرقي في أمريكا “البيض والسود خصوصا”. فمثلا، تراعي الأفلام إظهار توازن القوى بالمفهوم العرقي “العرق الأبيض والعرق الأسود”، سواء في تقمص دور الإنسان المناضل في سبيل نشر الديمقراطية أو تقمص شخصية الشرير الدكتاتور والمجرم. لكن، نجد أنه من الطبيعي أن تجد الأمريكي ذا الأصول الهندية أو الصينية أو المكسيكية أو الإفريقية أو حتى العربية، مسؤولا أو مديرا في مختلف المجالات العلمية والعملية، لكونها لا تعطي صورة ذهنية حول الشخصية الأمريكية التقليدية.
سبق لي أن كتبت مقالين بعنوان “المسلسلات في رمضان: دراما رمضانية أم تراجيديا وطنية؟”، ومما كتبته وقتها “إذا كانت الأفلام الأمريكية تسخر من الشعوب الأخرى في أفلامها ومسلسلاتها، فإن بعض مسلسلاتنا السعودية تعمل العكس، وذلك بدعم الصورة الإيجابية عن الشعوب الأخرى وتكوين صورة سلبية عن أنفسنا. فمثلا، نجد أن بعض القنوات التي يملكها سعوديون، ودخلها الإعلاني من قبل سعوديين، تعزز الصورة المشرقة لدول أخرى كانت أولى بتبني وإنتاج وبث تلك المسلسلات. فمسلسل “باب الحارة”، الذي استحوذ على نسبة عالية من المشاهدين، استطاع أن يبرز الشعب السوري بطريقة إيجابية، ويدعم صورا من التلاحم والتكاتف بين الشعبين الشقيقين، الفلسطيني والسوري. كما أسهمت المسلسلات التركية في زيادة السياحة لها وإعطاء صورة ذهنية ونمطية عن الشعب التركي. من المخجل، أننا لا نجد مسلسلا واحدا يقدمنا نحن السعوديين بنموذج إيجابي، على الرغم من دعمنا القضايا العربية والإسلامية والإنسانية على اختلافها. كما أن المؤسسات الخيرية العالمية والإسلامية والعربية تشهد وتشيد بدعم السعودية لفقراء العالم على اختلاف أجناسهم ودياناتهم. فأين المسلسلات التي تبرزنا داعمين لفقراء العالم؟ وأين الأفلام التي تبرز جهودنا في خدمة الحرمين الشريفين واحتضاننا أكبر حدث إسلامي ممثلا في الحج؟
بل أين الأفلام التي تبرزنا نحن السعوديين حسب وصف ولي العهد لنا أن لدينا إرادة جبارة ودهاء أسهم في وصولنا لمصاف الدول المتقدمة والمؤثرة في الساحة الدولية. أليس من حقنا جميعا أن نتساءل: متى نرى سينما سعودية تبرزنا للعالم، وفق هويتنا الوطنية التي نأمل أن ترانا شعوب الأرض بها بعيدا عن التطرف والإرهاب الذي يحاول بعضهم إلصاقه بنا؟
السينما يا سادة ليست شاشة عرض، وإنما منصة ثقافة يمكن أن توظف لتعزيز صورة إيجابية عنا نحن السعوديين. كما يمكنها أن تسهم في تعزيز “رؤية المملكة 2030″، السعودية العمق العربي والإسلامي.. قوة استثمارية رائدة.. محور ربط بين القارات الثلاث.
لذا يبقى السؤال المهم بعد فتح دور السينما.. هل ستسهم السينما في تعزيز صورتنا للعالم؟