ابراهيم العريس
آخر ثلاثة أفلام حققها المخرج الإسباني لويس بونويل في حياته كانت أفلاماً فرنسية خالصة، حتى وإن لمس فيها هواة السينما ومحبو سينما بونويل نفسه، العديد من الملامح الإسبانية، أو فلنقل، ملامح السوريالية الإسبانية. وكان هذا يعني بالطبع أن بونويل في تلك الثلاثية المؤلفة تباعاً من «سحر البورجوازية الخفي» (1972) و «شبح الحرية» (1974) و «غرض اللذة الغامض» (1977)، إنما أعاد ربط سينماه في خاتمتها ببداياته السوريالية حين كان أول فيلمان حققهما في العامين 1929 و1930 («كلب أندلسي» و «عصر الذهب») ينتميان كلياً إلى ذلك التيار الإبداعي. بل سيقول البعض إنهما كانا الفيلمين السورياليين الوحيدين في تاريخ الفن السابع. مهما يكن، المهم بالنسبة إلينا هنا هو أن الفيلم الإسباني الوحيد الذي حققه بونويل كان سابقاً لتلك الأفلام الثلاثة الختامية، ولاحقاً لفرنسيين آخرين هما «حسناء النهار» (1966) و «طريق الحليب» (1969)… ما يعني طبعاً أن المخرج الإسباني الأكثر بداوة في تاريخ السينما لم يعد إلى وطنه لتحقيق فيلم فيه، إلا مرة واحدة بعد فضيحة «فيريديانا» (1961). أي أنه انتهى «فرنسياً». ومن هنا اعتبار «تريستانا» وصيته السينمائية الإسبانية الأخيرة، حتى وإن كان عقد بطولته لكاترين دونوف. ومن الضروري القول هنا على أيّ حال، إن «تريستانا» هو أكثر أفلام بونويل بعداً عن السوريالية، بل حتى دنوا من البعد الروحي الذي لم يكن عادة من سمات سينما هذا المبدع الساخر أبداً والمتهكم في كل حين..
> منذ عنوانه، يبدو فيلم «تريستانا» حزيناً. فحتى وإن حمل هذا العنوان اسم تلك الصبية التي هي شخصيته المحورية، فإن الكلمة ترادف في العربية كلمة حزينة. ومن هنا سيكون بونويل دائماً أكثر المستغربين للإعجاب الكبير الذي بدا السينمائي الأميركي ألفريد هتشكوك يحمله تجاه الفيلم، خصوصاً حين حدث ذات وليمة عشاء تجاور فيها مقعداً صاحب «سايكو» وصاحب «حسناء النهار»، أن راح الأول يقهقه ضاحكاً بمرح وإعجاب وهو يأتي بين الحين والآخر على ذكر رجل كاترين دونوف (تريستانا) المقطوعة في الفيلم صارخاً: «يا لتلك الرجل المدهشة!» – كما يروي بونويل في مذكراته.
> يروي بونويل في مذكرتاه أيضاً أنه كان يريد أن يؤفلم الرواية التي سيعود ليقتبسها تحت عنوان «تريستانا» وهي من تأليف الكاتب الإسباني بنيتو بيريز كالدوس، منذ العام 1952 لكنه كان يؤجلها في كل مرة حتى العام 1962 حين كاد المشروع أن يتحقق لكن رقابة نظام فرانكو حالت يومها دون ذلك… وبالتحديد لأسباب سياسية، ذلك أن كل من يقرأ الرواية كان في وسعه أن يدرك أن المرأة ذات الرجل المقطوعة فيها، تريستانا، إنما كانت ترمز إلى إسبانيا نفسها بعد هزيمة الجمهوريين الديمقراطيين أمام فاشيي فرانكو، حتى ولو اختبأت الحبكة خلف حكاية عائلية بل ميتافيزيقية. ومن هنا إذا كان قد أتيح لبونويل أن يحققها في نهاية الأمر، وفي توليدو تحديداً، فما هذا إلا بفضل استفادته من مناخ ليبرالي سرعان ما خبا بعد إنجاز الفيلم ما اضطر بونويل إلى العودة إلى فرنسا ليواصل مساره المهني مرة أخرى بعيداً عن بلاده.
> كما أشرنا، يعتبر «تريستانا» من أكثر أفلام مرحلة بونويل الأخيرة كلاسيكية. وهو في هذا يدنو كثيراً من فيلمه «الإسباني» السابق «فيريديانا»، بل يماثله كثيراً في بعده «العائلي» وكونه حكاية عن التقدم في العمر ورغبة قريب عجوز في تملّك قريبته الصبية. والقريب هنا هو الدون لوبي البوزجوازي العجوز ذو الأفكار الليبرالية والذي يريد الاقتران بتريستانا قريبته الصبية اليتيمة التي يتولى رعايتها، لكنها هي ترفض ذلك بعد مرحلة إغواء وقبول، من جراء تعرفها على شاب رسام تُغرم به وتهرب معه بعيداً من متناول راعيها. بيد أن تريستانا سرعان ما تقع فريسة داء عضال يؤدي إلى قطع ساقها في وقت يكون فيه الدون بيدرو قد ازداد وجاهة وغنى، فتجد نفسها منساقة للعودة إليه وقد وجدت أن ما من حلّ آخر أمامها غيره. بيد أنه يحدث بعد تلك العودة أن يعود الرسام الشاب هوراسيو إلى توليدو حيث يلتقيه الدون بيدرو ويطلب منه بنفسه هذه المرة، أن يزور تريستانا لأنها تحتاج إلى تلك الزيارة. يستجيب هوراسيو إلى ذلك بالفعل، لكن الصدع يعود بين العاشقين الشابين إلى درجة أن تريستانا لا تجد ضيراً في أن يتخلى عنها حبيبها هذا مرة أخرى. وهنا نراها تغرق في كآبة وإمّحاء تأمين لن ينقذها منهما سوى اهتمام الصبية بشاب أصم أبكم تجد في الحديث إليه عزاء ما. أما الدون بيدرو فإنه يغوص أكثر وأكثر في شيخوخته، وكذلك يعود إلى المواثيق الاجتماعية التي كان متمرداً عليها. ويزيد هذا الأمر من حزن تريستانا… لكنها ذات يوم وإذ يقع الدون بيدرو مريضاً وتشتد عليه نوبة البرد ليلاً، تزعم تريستانا أنها تتصل بالطبيب ليأتي وينقذه، لكنها في حقيقة الأمر تفتح النافذة على مصراعيها في غرفته تاركة الرياح المثلجة تدخلها، ما يتسبب في موته.
> الحقيقة أن تلخيص حكاية فيلم «تريستانا» على هذا النحو يكاد يجعله يبدو حكاية ميلودرامية، مع أن الفيلم في حقيقته- ولكن الرواية الأصلية كذلك- يغوصان في صلب القضية الإسبانية بأكثر مما يفعل أي فيلم سابق لبونويل. وحسبنا أن نذكر هنا كيف أن هذا الأخير نقل أحداث الرواية من مدريد عند بدايات القرن العشرين، إلى توليدو- مسقط رأسه هو على أي حال والتي كان دائماً ما يحلم بأن يموضع فيها فيلماً سياسياً يدنو من تاريخها، لا سيما باعتبارها المنطقة التي انطلقت منها شعلة الحراك الثوري الجمهوري في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. وكذلك المنطقة التي شهدت أكبر المجازر الفاشية التي اقترفت ضد الديمقراطيين واليساريين والجمهوريين، وأدت إلى تربع فرانكو على «عرش» إسبانيا عقوداً طويلة من السنين.
> وكان بونويل معادياً تماماً لفرانكو بالطبع ومن هنا نراه يعيش بين 1947 و1960، في المكسيك وقد حاز– في آن معاً– على عيش كريم وعمل. لقد كانت السنوات التي قضاها بونويل في المكسيك من الطول بحيث أن موسوعات سينمائية كثيرة، حيث تتحدث عنه اليوم تعرّفه بأنه «مخرج مكسيكي من أصل إسباني». وربما لا يكون هذا دقيقاً، لكنه منطقي. ذلك أن علينا ألا يغيب عن بالنا هنا أن بونويل لم يعش فقط سنوات طويلة في المكسيك، بل أنه حقق فيها العدد الأكبر من أفلامه. صحيح أن عدداً من أفلامه المكسيكية كان ضئيل الأهمية مقارنة مع أفلامه الكبرى، ولكن صحيح أيضاً أن ثمة من بين أعماله المكسيكية أعمالاً اعتبرت كبيرة وأساسية منذ ظهورها… إضافة إلى أن النقد يكتشف منذ سنوات أهمية أفلام أخرى مكسيكية لبونويل لم يكن أعارها اهتماماً من قبل. وثمة، في هذه الأيام بالذات، نوع من إعادة درس واعتبار العديد من أفلام بونويل المكسيكية «ذات الأهمية الثانوية» على أية حال.
> حقق المخرج أربعة عشر فيلماً مكسيكياً خالصاً، لكنه كان يحلم دائماً بالعودة إلى وطنه. ومن هنا حين دنا واستقر ردحاً في فرنسا، شعر أنه بات قريباً من إسبانيا إلى حد ما. وهو حقق في أسبانيا بالفعل، ثم في فرنسا، فيلمين من أهم أفلام مرحلته الأخيرة ( «فيريديانا» 1961 و «يوميات وصيفة» – 1963)، لكنه سيعود مرة أخرى إلى المكسيك ليحقق فيها فيلماً كبيراً له هو «سيمون الصحراء». وهو حقق كذلك أفلاماً ذات إنتاج مشترك مع إيطاليا، ومع فرنسا/ المكسيك، ومع إسبانيا/ المكسيك، بحيث يكاد ينطبق عليه، أكثر مما على أي مخرج آخر، وصف السينما بالفن الأكثر كوزموبوليتية في تاريخ العالم. غير أن هذا لا يمنع من التأكيد كما أشرنا، على أن آخر الأفلام التي حققها بونويل كانت فرنسية خالصة، وهي بالطبع «شبح الحرية» (1974) و «غرض الرغبة الغامض هذا» (1977) يسبقهما بالطبع تحفته الساخرة (سحر البورجوازية الخفي) (1972). وهو قبل ذلك، بين «سيمون الصحراء» (1965) و «سحر البورجوازية الخفي» حقق ثلاثة أفلام اعتبرت من أهم أعماله على الإطلاق، على رغم أن اثنين منها كانا اقتباساً لروايتين معروفتين «حسناء النهار» (1969) عن جوزيف كيسيل، و «تريستانا»، فيلمه الإسباني الوحيد في سنواته الأخيرة، عن رواية غالدوس، الذي كان اقتبس عنه «ناتارين»(1958) أحد أفلامه المكسيكية المميزة. علماً بأنه ثالث تلك الأفلام «درب التبانة» (1969) حقق عن سيناريو لجان كلود كاريير.
المصدر: جريدة الحياة