أحمد مغربي
ليست صورة رقمية هجينة تجمع ثقافة الجمهور- المتلقي مع الفن النخبوي الكلاسيكي، بل فن رقمي في لحظة أسطورة- كذبة!
للوهلة الأولى، يبدو الأمر انتصاراً. للوهلة الأولى، يضرب الأعين انتصار ثقافة الجمهور المتلقي بفضل التقنيات البصرية الرقمية، في الارتقاء إلى الفن النخبوي، عبر امتصاصه لوحة كلاسيكية للرسام الفرنسي كلود مونيه وإعادة انتاجها في صورة مكثفة عن ذائقة راهنة.
وبفضل الوسيط الرقمي، صنعت شابة فيليبينة عادية (ميكا لابراغ، 22 سنة) صورة تجمع لقطة من الفيلم الأوسكاري “نادني بإسمي” (وهو من النصوص البصرية التي تكرس تغلغل المثلية الجنسية في الثقافة المعاصرة) مع لوحة شهيرة لمؤسّس تيار الانطباعية في الرسم.
وحاضراً، تجمع المثلية الجنسية ثقافتي النخب والجمهور، بعد أن ظلت طويلاً منتشرة كـ”ثقافة تحت الأرض”، وصارت حاضراً مكرسة لدى نخب معاصرة تنتصر للإنسان وتحرره جسداً ووجوداً. وباستعمال تقنيات متوفرة في معظم كاميرات الهواتف الخليوية، وُلِدَتْ تلك الصورة الهجينة بفضل الشابة الفليبينية التي وضعتها على حسابها في صفحة إلكترونية على الـ”سوشال ميديا” مخصصة لهواة الكاتبة البريطانية المعاصرة آليكسا تشانغ. يزيد في التهجين والمزج والتخالط والتنوّع، أن تشانغ هي نفسها كاتبة وعارضة أزياء ومصممة للموضة، بمعنى ان تشانغ نفسها هي “هجين” لثقافتي النخب والجمهور.
بقول آخر، جاء ذلك “الهجين” الرقمي بوصفه صنعة الجمهور- المتلقي الذي ابتكر ببساطة شيئاً غير مألوف، عبر “تهجين” إلكتروني جمع لقطة سينمائية من القرن 21 مع لوحة كلاسيكية من ذرى الفن النخبوي الراقي في القرن التاسع عشر.
تعني كلمة هجين التي استخدمت في الاعلام الغربي لوصف تلك الصورة، الشيء الذي ينجم من تلاقي نوعين مختلفين متباعدين. وفي الصورة هناك كثافة في حضور مفهوم الهجين: تجمع المثلية حاضراً ثقافة الجمهور الذي صعدت منه مع نخب الثقافة العليا، وتجمع تشانغ ممارسات الثقافة النخبوية في الكتابة مع ممارسات كانت تعتبر “من- تحت”، وصارت الآن في قلب الثقافة المعاصرة، كالأزياء وتنظيم الحفلات وقصَّات الشعر وعروض الأزياء. تجمع الصورة أيضاً بين الأشياء السابقة كلها، وبين التقنيات الرقمية التي انتجتها النخب العلمية للمعلوماتية والاتصالات المتطورة، عبر عمل هو في صلب ممارسات الحياة اليومية للجمهور حاضراً: استخدام برامج متطورة لصنع ما يلاقي هوى الفرد العادي، خصوصاً في المحتوى المرئي- المسموع.
حوار مع ذكاء الجمهور
كذلك تظهر الصورة الهجينة إثنين من المناحي المتفردة في الفن الرقمي. يتمثل الأول في امتلاك الرقمي القدرة على الجمع والمزج تطاول الفنون التي سبقته كلها، مع قدرته في الوقت نفسه على صنع شيء جديد كلياً. إذ يستطيع أن يجمع الرسم والتصوير والفيديو والسينما وأجهزة الموسيقى والصوت الآدمي والاوكسترا وغيرها.
وفي الوقت نفسه، يستطيع الفن الرقمي صنع ما لا تستطيعه التقنيات التقليدية: الحوار مع مستعمله (كذلك الجمهور المتلقي)، تقليد مزاجاته وأنماط الاحساس عنده، وصولاً إلى التفاعل مع مناحٍ معينة من ذكائه. مرَّ في خيال شابة أن صورة من فيلم يمكن أن تناسبها خلفية من منظر للطبيعة ارتسم في خيالها بتذكرها لوحة مونيه. وتمكن الفن الرقمي من التفاعل مع ذلك الهوى الفردي، بأن قدم له أداة تجعله قابلاً للتحقق، بسهولة ويسر. لا تستطيع السينما ذلك، على رغم كثافة تفاعلها مع خيال الجمهور لكن بطريقة مختلفة. ولا يستطيع الرسم تحقيق ذلك التفاعل أيضاً.
وبأكثر من كونه تقنية، يصل الرقمي إلى كونه نمطاً أصيلاً في النظر إلى العالم، بالأحرى تصوره وصنع خياله في الأدمغة والعقول، إضافة إلى “تنشقه” كشهقة هواء غير عادية، حضور العلم الذي هو حجر الأساس فيه.
لم تتردد صحيفة “الغارديان” التي نشرت الصورة، في اعتبارها بداية لموجة ثالثة من نوع معين من موجات الفن الرقمي المعاصر، هي تلك التي تتميز بأنها “تهجين” بين الثقافة “العليا” للنخب، والـ”من- تحت” للجمهور. وقارنتها بانتشار الـ”مايم” Meme (تلك الأنماط التي تنتشر بأن يقلدها الأفراد، على غرار موجة “تحدي سكب دلو الثلج” التي انتشرت في 2014) وأشرطة الفيديو المضحكة عن الحيوانات.
هناك منحى آخر. الأرجح أن هنالك شيئاً ما فيها غير بديهي، بالاحرى غير طبيعي. في الكلمات السابقة، كان سهلاً الحديث عما “تقوله” الصورة، عن “الرسالة” التي تحملها بصرياً إلى العيون. لكن، ألا تبدو أنها تنادي مطالبة بنقد لها؟
يرد إلى الذهن ذلك النقد الشهير الذي أنجزه المفكر الفرنسي رولان بارت لاحد أغلفة مجلة “باري ماتش” في مطلع الخمسينات من القرن الماضي. كان الغلاف صورة لشاب إفريقي يافع، يتطلع بحماسة وطنية إلى العلم الفرنسي ويؤدي التحية العسكرية له. كتب بارت أسطورة تضمرها الصورة في رسالة بصرية تريد إقناع العيون بأن الإمبراطورية كاملة صافية، لا مشاكل لها مع الشعوب التي تستعمرها وتحتلها وتضطهد من يقاومها، ولا استعلاء على الجسد الأفريقي الأسود من المحتل الامبراطوري الابيض!
ورأى بارت أن نجاح الاسطورة في أداء عملها بالكامل، يتطلب أن تظهر كأنها طبيعية تماماً، كي تخفي طابعها الايديولوجي. “أنها ليست كذبة ولا اعتراف، بل هي التواء وتحريف… إن قدرة الاسطورة على الكشف هي تماماً قدرتها على التحريف”، وفق بارت. لم يكن ذلك سوى بداية لجهود استمرت منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتى الآن، في نقد النصوص البصرية، وهو يتصل أيضاً بنقد الإشارات والدلالات التي تحملها النصوص كلها، خصوصاً تلك التي تروج في الثقافة والاعلام. طري في الذهن اشتغال بيار بورديو وجورجيو آغامبين وجان بودريار على موضوعات في نقد الثقافة ونصوصها كلها، بما فيها البصري.
في ذلك النقد، يعتبر الجسد الذي تقدمه السينما على الشاشة، نوع من الاستيلاء على الجسد- الذات عند الجمهور. هناك تماهٍ خيالي مع صورة الجسد كما يتراءى على الشاشة، فكأنه صورة بالمرآة عن الذات، لكنها خدعة كاملة. مع الـ”سوشال ميديا”، انتشر نوع من النرجسية في صورة الذات (بما فيها الجسد)، يمكن تلمسه بسهولة في تقصد الأفراد عموماً أن تأتي صورهم في تألق إيجابي، كأنه يعيش حياة مثالية ومملؤة بالسعادة و”زهرية اللون”. أليس ذلك ما تنطق به أجساد الممثلين على البركة، في الصورة الهجينة؟ لكن، استبدال الجسد- الذات الفعلي الآتي من الحياة الفعلية المعتكرة والمشوشة والمملؤة بالمعاناة، بذلك الجسد الوهمي النرجسي المنحوت بكاميرا السينما (ثم بكاميرا الرقمي)، هو إعلان موت الجسد- الذات.
على نقيض ما تقوله ثقافة الرقمي عن قوة الفرد فيها، يموت جسد الذات للفرد، مقابل صعود للزاهي النرجسي المكتمل المتألق الذي لا يكون سوى ظل مرسوم على شاشة، بمعنى آخر، يكون موتاً معلناً، لكن أسطورة الصورة الهجينة تحرف معنى موته، لتجعله يبدو حياة مشتهاة.
ماذا عن انتشار الصورة عبر الـ”سوشال ميديا” باعتبارها نموذجاً عن قوة ثقافة الجمهور المتلقي، في زمن صار ثابتاً فيه أن الـ”سوشال ميديا” هي مدخل للاستيلاء على الجمهور- المتلقي، والتلاعب بثقافته وأفكاره وميوله؟ ألا تحرف الصورة- الأسطورة أن أفراد الجمهور الالكتروني باتوا لا يستطيعون السيطرة على ثقافتهم، عبر الترويج الزائف لأسطورة قدرتهم على التلاعب بالثقافتين العليا والسفلى؟
أليس ذلك التلاعب الذي يتوسطه الرقمي، هو ما يصنع ذائقة اللحظة الراهنة، على نحو ما ظهر من التدخل الروسي في الانتخابات الاميركية، إلى فضيحة حسابات “فايسبوك” في علاقته مع شركة “كامبردج آناليتكا” للتلاعب بالجمهور في بريطانيا؟ وللحديث بقية.
المصدر: المدن