ابراهيم العريس
هناك بالتأكيد سحر ما يجعل الأفلام التي حققت في هوليوود منذ بدايات القرن الحادي والعشرين وتتحدث عن الفترة الماكارثية السوداء في تاريخ الولايات المتحدة عموماً، وتاريخ عاصمة سينماها خصوصاً، أفلاماً فاتنة. وحتى إن كان المجال لا يتسع هنا لذكر العديد من تلك الأفلام حسبنا أن نذكر على سبيل المثال «حظاً سعيداً ومساء الخير» لجورج كلوني (مخرجاً) و «دالتون ترامبو» الذي رشح للأوسكار في العام الفائت. غير أن الفيلم الأكثر تقشفاً وقوة في هذا المجال يبقى «واحد من عشرة هوليوود» الذي حققه كارل فرانسيس في العام 2001، ليروي فيه الصراع الذي خاضه المخرج هربرت بيبرمان ضد لجنة السناتور ماكارثي سيئة السمعة فيما كان ينجز واحداً من أهم أفلامه، بل واحداً من أهم انتاجات «السينما النضالية» الأميركية: فيلم «ملح الأرض» الذي يُعتبر «الفيلم البروليتاري الوحيد» الذي أُنتج في تاريخ السينما الأميركية. وبالتالي كان من الطبيعي لهذا الفيلم، إذ حقّق بين 1951 و1953 ليعرض للمرة الأولى في العام 1954 أن يجابَه بالمحاكمات والمشكلات إذ كانت تلك الحقبة كما نعرف، حقبة مطاردة السحرة والمرحلة التي كان فيها السناتور ماكارثي وأصحابه يرون «شيوعياً» في كل زاوية من زوايا أميركا لا سيما في هوليوود. ويبقى السؤال الشائك: كيف تمكن بيبرمان ورفاقه من إنجاز «ملح الأرض» وعرضه في ظل تلك الظروف؟ وكيف تمكن الفيلم من الوصول الى بلدان عديدة على رغم شتى أنواع الرقابات؟
> إن كارل فرانسيس يشرح هذا كله في فيلمه المذكور ويمكن العودة إليه في هذا الصدد. أما ما يهمنا هنا فهو «ملح الأرض» بالتحديد، هذا الفيلم الذي ينطلق في حقيقة أمره من تصوير إضراب حقيقي اندلع قبل ذلك بفترة يسيرة في مناجم القصدير في ولاية نيو مكسيكو الأميركية. وكان العدد الأكبر من العمال المضربين ينتمون الى سكان البلاد الأصليين من «هنود» الشيكانو الذين انتفضوا ضد ما يعانونه من استغلال الشركات الأميركية مالكة المناجم لهم، وعدم مبالاتها بأوضاعهم البائسة. يومها كان منطلق الإضراب حادث عمل نبّه العمال الى قدرتهم على التحرك بغية تحسين تلك الأوضاع. بيد أن النضال لم يكن سهلاً في ذلك الزمان الذي كانت النقابات مأجورة للرأسمال وللسلطات، والحرب الباردة تثير الحذر لدى هؤلاء، والعمال غير منظمين. وهكذا تحركت السلطات بسرعة ولم يجد العمال مناصاً من التراجع. وكادت الأمور تنتهي عند هذا الحدّ لولا أن النساء، بقيادة اسبيرانزا ذات الخمسة والثلاثين عاماً، تحركن بسرعة ليحللن في النضال وإقفال الدروب المؤدية الى المناجم، محل الرجال. وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان: تحول الصراع من صراع بين العمال الشيكانوس، الى صراع بين الرجال والنساء. فالرجال لم يكونوا معتادين على ان تتحرك المرأة إلا بإذنهم وفي المحيط العائلي الضيق، وبالتالي لم يرضوا أبداً عما يحدث فضربوا النساء وهددوهن بالطلاق… وبهذا تحول الفيلم من عمل نضالي يصف الصراع «الطبقي» الأزلي بين الساحقين والمسحوقين، الى عمل يصوّر كل أنواع الصراعات: الصراع بين الرجال والنساء، الصراع الإمبريالي بين الشركات الأميركية الشمالية والعمال الهنود الحمر البائسين، الصراع التقليدي بين الطبقات، والصراع العنصري بين البيض والملونين. كل هذا قفز فجأة الى الواجهة ليقدم صورة مبكرة وشديدة القوة لكل أنواع الصراعات التي ستشغل العالم خلال العقود التالية.
> غير أن المثير للإهتمام أكثر من أي شيء آخر في «ملح الأرض» كان أن كاتبه ومخرجه قدماه من وجهة نظر إمرأة، لا من وجهة نظر الرجال «أصحاب العلاقة» كما اعتادت أن تفعل كل الأفلام التي تصوّر الصراعات الاجتماعية في هوليوود أو غيرها. وهذا الذي بدا يومها غير مألوف وجعل بعض مناوئي الفيلم يسخرون منه بسببه، كان على أي حال، حقيقياً. فالحال أن كاتب السيناريو مايكل ويلسون ومنتج الفيلم بول جيريكو ومخرجه هربرت بيبرمان، كانوا توجهوا معاً الى تلك المنطقة الأميركية ليتابعوا مصير إضراب عمال مناجم القصدير الذي كانوا قد سمعوا به. لكنهم، هناك فوجئوا بالصورة المختلفة للأحداث وبما راح يُروى لهم عما فعلته النساء، لا سيما على لسان إسبيرانزا نفسها. ومن هنا قرّ قرارهم على أن يُصوَّر الفيلم كله من وجهة نظرها إنما بعد أن جاؤوا بممثلة مكسيكية كانت بالغة الشهرة في ذلك الحين، هي روزاورو ريفويلتاس وأسندوا اليها دور إسبيرانزا فقامت به ببراعة وصدق هي التي كانت معروفة بنضالاتها المكسيكية في سبيل تحرير المرأة، ووجدت أن حضورها القوي في الفيلم سيجتذبه أكثر ناحية النضالات النسوية، الإجتماعية الحقيقية وليس النخبوية الثقافية.
> إذاً، كما بات واضحاً حتى الآن، ينطلق الفيلم من ذلك الإضراب الذي استمر بضعة شهور لم تلن فيها عريكة الشركة المالكة للمناجم، بل تمكنت في نهاية الأمر من أن تدفع المحاكم الى أن تأمر العمال بمعاودة العمل تحت طائلة الإعتقال إن لم يفعلوا. فما كان منهم إلا أن أذعنوا. ولكن، بما أن القرار القضائي لم يكن يسري على النساء، تحركت هاته فتحرك الأزواج للحيلولة بينهن ومتابعة مسارهن لسدّ مداخل المنجم الرئيسية. في البداية، وكما نشاهد في الفيلم تبعاً لرواية إسبيرانزا، تعامل العمال مع المسألة بمرح. فهم لم يأخذوا تحرك النساء على محمل الجدية، ولا السلطات فعلت ذلك ولا الشركة وعملاؤها بالطبع. ولكن بالتدريج اختفت روح المرح الذكورية وراح الرجال، وفي مقدمهم رامون، زوج إسبيرانزا نفسها، يعنفون في منع النساء من التحرك. لكنهم فشلوا في ذلك. فالنساء اتخذن قرارهن بأن يواصلن المعركة حتى النهاية، فرحن يجابهن، هذه المرة، السلطات وعملاء الشركة وقد أُسقط في يد الرجال الذين وجدوا أنفسهم يهتمون بالأطفال ويغسلون الثياب ويقومون بالأعباء المنزلية، وهم يراقبون ما تقوم به النساء وقد أُغلق الأمر عليهم تماماً.
> وعلى هذا النحو، إذا، تحول الفيلم الذي كان يفترض به أن يكون فيلماً يطالب بالمساواة بين العمال، الى فيلم يدعو الى المساواة بين الرجال والنساء. ومن هنا رأى الباحثون دائماً أن قوة «ملح الأرض» إنما كمنت دائماً في إخراج سينما «الإضراب العمالي» من منغلق النزعة العمالية الذكورية الى رحابة السينما الشاملة التي تقف مناصرة حق المرأة ونضالاتها. ولكن من دون أن يفوت الفيلم أن يبقي مسألة تحرر المرأة وحقوق العمال مرتبطة عن كثب بمسألة «الصراع ضد الإمبريالية والعنصرية» كما أشرنا. وهو أمر تذكّر به الشخصية النسائية المركزية إسبيرانزا، راوية الأحداث، حين تقول لنا في سياق ما ترويه أن جدود الهنود الشيكانوس الذين يشكلون اليوم طبقة العمال «كانوا هنا منذ الأزل هم الذين ولدوا في المكسيك قبل ألوف السنين من ولادة الولايات المتحدة الأميركية».
> ولعل أغرب ما في أمر هذا الفيلم هو أن صانعيه الثلاثة الرئيسيين، هربرت بيبرمان ومايكل ويلسون وبول جيريكو، كانوا حين أنجزوه ممنوعين من العمل في هوليوود بحكم من اللجنة الماكارثية التي اعتبرتهم «شيوعيين» الى جانب أولئك السبعة الآخرين الذي اشتهروا بـ «عشرة هوليوود»، وانتفض الكثير من فناني عاصمة السينما تلك، وعلى رأسهم النجمان هامفري بوغارت ولورين باكال للدفاع عنهم في تظاهرات صاخبة لا تزال ذكراها ماثلة في التاريخ الأميركي حتى اليوم. بيد أن السلطات اليمينية المتطرفة لم تلن يومها. ومن هنا اضطر اولئك المبدعون إما الى العمل خفية تحت أسماء مستعارة، كما حال دالتون ترامبو وآبراهام بولانسكي، وإما الى مبارحة أميركا الى أوروبا كما حال جون بيري، أو الاختفاء تماماً كما حال النجم جون غارفيلد. أو الاختفاء من هوليوود للظهور سراً في مكان آخر، كما حال ثلاثي «ملح الأرض» هؤلاء الذين توجهوا، كما أشرنا، الى نيو مكسيكو، حيث صوروا هذا الفيلم خفية عن الأعين الماكارثية، ليفاجئوا العالم بعمل سينمائي لا تزال له نكهته وقوته ودلالاته حتى اليوم، والذي سيقول جورج سادول، الناقد والمؤرخ الفرنسي ذات يوم، «اننا مهما قلنا عن هوليوود يكفيها فخراً أنها انتجت، ولو في شكل غير مباشر، هذا الفيلم الإنساني العميق». والحقيقة أن هذه الشهادة ستبدو فائقة الأهمية إن تذكرنا أن «ملح الأرض» قد عُرض بالتزامن مع فيلم إيليا كازان، أحد وشاة اللجنة الماكارثية، «في الميناء» الذي اتى مبرراً لكل ممارسات ماكارثي الكئيبة!
المصدر: العربية.نت