إبراهيم العريس
من المعروف عادة أن كل شيء له بداية محددة ترتبط بظروف واضحة، ولا سيما في مجال الإبداع. كل شيء ما عدا حين يتعلق الأمر بالأساطير الموغلة في القدم، وبخاصة بما ينتمي إلى الفولكلور، حيث حتى ولو كان المنطق يقول لنا إنه لا بد من وجود زارع أول للفكرة راحت الحكايات والأفكار تتراكم انطلاقاً منه، يصعب في معظم الحالات، تحديد ذلك الذي بدأ الحكاية. ولعل ذلك شكّل جزءاً من سحر تلك الإبداعات الغفلة وأعطى الأجيال المتلاحقة فرصة للاستحواذ عليها في تعديلات وإضافات تصبح هي مع مرور الوقت جوهر العمل ومصدر اللذة في التعاطي معه. غير أن هذه الحال لا تنطبق اليوم على واحدة من أجمل القطع «الفولكلورية» الأوروبية على رغم تحوّلها لتصبح حكاية شعب ووطن وأمثولة علمية وأخلاقية وإنسانية في الوقت نفسه. بل إنسانية بالمعنى الشامل للكلمة كما سوف نرى بعض قليل.
> فالحال أن هذا العمل الذي نتحدث عنه هو ودائماً، الكتاب السويدي الذي يُقرأ أكثر من أي كتاب آخر في هذا البلد الإسكندنافي، كما أنه الكتاب الذي قُلّد أكثر من أي كتاب آخر في الأدب الحكائي الموجّه للصغار. أما الاختلاف الجوهري فيكمن في أن لـ «مغامرات نيلز العجيبة» مؤلفة محددة هي واحدة من أكبر كتاب السويد وواحدة من أولى النساء الكاتبات الحائزات مبكراً جداً جائزة نوبل للآداب، ليس تحديداً بفضل هذا الكتاب، وإنما بفضل أعمال لها في مجال الرواية من أبرزها بالطبع «ملحمة غوستا برلينغ» التي حُوّلت عند بدايات السينما فيلماً لا يزال يعتبر كلاسيكياً وكبيراً حتى اليوم.
> لكن ثمة فارقاً كبيراً بين كتابَي لاغرلوف هذين. فـ «مغامرات نيلز…» كتب أصلاً للصغار وبناء على توصية، أي أن لاغرلوف لم تؤلفه من عندياتها، بل بناء على طلب وُجّه إليها في العام 1902 من «جمعية المعلمين الوطنية» التي كانت تريد التغلب على صعوبات دروس الجغرافيا في المدارس الثانوية وكره الطلاب هذه المادة التعليمية، كما على جهل الطلاب بأحوال السويد وثرواتها وتنوعية مناطقها. والحقيقة أن لاغرلوف وافقت بسرعة على خوض المشروع يومها وقد رمت من خلاله كذلك إلى العمل، كما كان يفعل العديد من المثقفين السويديين في ذلك الحين، على إحداث تجديد يكاد يكون جذرياً في اللغة السويدية وقواعدها وألفاظها. وعلى هذا الأساس انطلق المشروع الذي كرست له الكاتبة ثلاث سنوات من حياتها تذرع مناطق السويد وتتعرف على نباتاتها وحيواناتها وجغرافيتها وشعوبها وأساطيرها وأغانيها الفولكلورية ولهجات مختلف مناطقها كي تصهر هذا كله في كتاب صدر جزؤه الأول في العام 1906 ليصدر جزء ثان له في العام التالي. ولئن كانت النتيجة الأولى للنجاح الفوري الذي حققه الكتاب، موافقة الدولة في العام 1906 على مشروع التجديد اللغوي، ما أحدث ثورة علمية هائلة في هذا البلد، فإن النتيجة الثانية والأساسية تمثلت في تحوّل دروس الجغرافيا في المدارس إلى متعة حقيقية، ما جعل الكتاب عملاً يحتذى في بلدان عديدة.
> لكنه خلق للسويد، وللعالم كله أيضاً، فولكلوراً من نوع جديد، بدأ بترجمة الكتاب إلى العديد من اللغات، ليصل إلى اقتباسات سينمائية له، بل حتى، وفي العام 1980 تحديداً، إلى اقتباس شهير في التلفزة اليابانية على شكل مسلسل متعدد الحلقات بالرسوم المتحركة عُرض حينها في عدد لا يحصى من المناطق، منها التلفزات العربية حيث حمل عنوان «مغامرات نيلز» وكان بداية لذلك الشغف بالمسلسلات اليابانية ثم الكورية. وهكذا إذاً، عرف هذا العمل انتشاراً عالمياً واسعاً مرتبطاً بنزعته التعليمية ولكن بخاصة بنزعته الإنسانية. وكان في طريقه واحداً من الأعمال الفولكلورية النادرة في العالم التي لها بداية محددة واسم مؤلف أكثر تحديداً. فما الجديد فيه؟ وعمّ يتحدث بعد كل شيء؟
> ربما لا يحمل العمل في حد ذاته ذلك التشويق والحكاية الاستثنائية اللذين نجدهما في حكاية تكوّنه وانتشاره التي أوردناها أعلاه، غير أن موهبة سلمى لاغرلوف الخارقة تمكنت من أن تضفي على الحكاية التي ابتكرتها سمات ما كان يمكن أن تكون، في المنطلق، في الحسبان. فالحكاية بعد كل شيء بسيطة: هي حكاية الفتى ابن الرابعة عشرة نيلز هولغرسون، الذي يُقدّم لنا في البداية ولداً شريراً يؤذي كل من حوله ولا سيما صغار الحيوانات وأطفال الجيران، ويظل ذلك دأبه حيث تفشل كل محاولات أهله ومدرسيه لإصلاحه حتى يحل يوم يطلق فيه رشاش سخريته وأذاه على قزم يلتقيه بالصدفة. ولما كانت لذلك القزم قوى سحرية يقرر الثأر من الفتى الشرير فيمسخه بدوره قزماً. ويحدث ذلك في لحظة تعبر فيها فضاء المنطقة جماعة من الطيور الضارية المهاجرة. أما في مزرعة آل هولغرسون فإن ثمة إوزة بيضاء تتطلع دائماً الى الانضمام إلى تلك الطيور التي تحس هي بالغيرة من حرية حركتها والقدرة على التنقل من مكان إلى آخر، فتنطلق لاحقة بالركب وقد تعلق برقبتها الفتى نيلز وقد أضحى الآن قزماً. وعلى هذا النحو تبدأ رحلة نيلز فوق المناطق السويدية طائراً مرتعباً أول الأمر في ركب الطيور المهاجرة، ثم مراقباً لكل ما يعبر به ويرصده من رحلته الجوية المدهشة وقد راح يتعلم خلال الرحلة، أول الأمر، تلك الدروس الأخلاقية التي ستحوّله من فتى شرير لا يتوقف عن إيذاء كل ما ومن حوله، إلى فتى مفعم بالإنسانية وحب الآخرين.
> غير أن هذا، يبقى الأثر الجانبي لرحلته ويبقى إضافة الى استخدام لاغرلوف للغة الشعبية والحوارات المفعمة بالحياة، الجانب الخاص بها من دروس هذا النص ضمن إطار معركتها التي أشرنا إليها، أما الأساس فيبقى ما يحمله النص، عبر رصد نيلز كل ما يعبر به، للمناطق المختلفة من بلاده السويدية، ولا سيما عبر السويد التاريخية وتنوع اقتصادياتها الزراعية ومناظرها الطبيعية وارتباط سكان المناطق بمناطقهم وتاريخهم وأساطيرهم الشعبية وأناشيدهم وعاداتهم وتقاليدهم، وقد لا نكون في حاجة إلى التشديد هنا على كم أن نيلز كان كلما تقدم في رحلته، ازداد تعرّفاً على الناس واعتاد تقبّلهم كما هم، ولا سيما حين يحدث أن تشعّب لاغرلوف حكاياتها كما يحدث مرة حين نلتقي في العاصمة ستوكهولم نفسها، وفي شكل موارب قد يبدو على غير علاقة بالسياق العام للرحلة الجوية، شاباً وحيداً آتياً من الريف ويشعر بالكآبة لكن حياته ومشاعره تتبدل تماماً حين يلتقي على سبيل الصدفة عجوزاً من سكان المدينة يخبره عن تاريخ هذه الأخيرة ويساعده على القيام بجولة فيها تعلمه كيف يعتاد عليها ويحبها ويبارح كآبته، ليتبين له بعد ذلك أن العجوز الذي التقاه وأحدث فيه ذلك التغيير لم يكن في حقيقة أمره سوى ملك البلاد نفسه… والحقيقة أن مثل هذه الحكاية الجانبية يكثر في سياق النص، بيد أن قوة سلمى لاغرلوف الأدبية واستخدامها الحيّ للغة آتية من الحياة نفسها وليس من «القواميس المقدسة» جعلها تبدو في أساس النص. والغاية دائماً تغيير نيلز عن طريق المعرفة والوعي ومزيد منهما. وهو أمر يتحقق في النهاية إلى درجة تقنع القزم الذي كان وراء مسخ نيلز قزماً بأن الوقت قد حان لإرجاع هذا الأخير إلى وضعيته الأولى، بعدما تخلص من كل ما كان لديه من رغبات شريرة، جاعلاً الإوزة التي تصحبه طوال الرحلة، تحطّ به أخيراً في مزرعته وقد تيقنت هي الأخرى من أنه بات فتى عالماً يحب المعرفة ويتملكها راغباً في المزيد منها، محباً للتعامل الندّي مع الآخرين غير راغب في التسبب بأي ضرر.
على رغم أن سكان بعض المناطق السويدية، النادرة على أي حال، انتقدوا كتاب لاغرلوف لأنه لم يتوقف في رحلته في مناطقهم بل اكتفى بعبور سمائها أحياناً، كما حال أهالي منطقة هالند، فإن لاغرلوف ستقول دائماً إن هذا الكتاب قد أكسبها رهاناتها العلمية والأخلاقية في شكل لم تتوصل إليه أعمالها السابقة. ومن المعروف أن سلمى لاغرلوف (1858 – 1940) اعتبرت دائماً كاتبة ذات نزعة إنسانية أخلاقية التعبير، غير أن صعوبة مواضيع معظم كتبها التي كانت قد صدرت قبل «مغامرات نيلز» كانت قد جعلت منها كاتبة نخبوية بعيدة من متناول القراء البسطاء، لكنها بعد هذا الكتاب ثم بعد جائزة نوبل التي مُنحتها عن مجمل أعمالها بعد سنوات، تحولت لتصبح واحدة من الكتاب الأكثر شعبية في بلدها، وأحياناً حتى في طول أوروبا وعرضها.
المصدر: العربية.نت