إبراهيم العريس
يستحيل على أي كان بالطبع ما كان مستحيلاً على صاحب العلاقة نفسه: أي ذكر كل الروايات والكتب الأخرى التي وضعها الكاتب البلجيكي/ الفرنسي جورج سيمنون طوال حياته الطويلة والمتشعبة إنما الممتلئة تماماً بالكتابة، ما أهله لدخول كتاب غينيس للأرقام بما يتجاوز الأربعمئة رواية من المؤكد أن معظمها ينتمي على رغم هذا الإفراط الكمّي إلى الأدب الكبير. ولم يكن السينمائيون الكبار على أي حال مخطئين في اقتباس العديد من أعماله أفلاماً لها طابع تشويقي بوليسي لكنها تتجاوزه، ومن بعيد بالتأكيد. وليس أدل على هذا من روايته «ثلاث غرف في مانهاتن» التي حولها مارسيل كارنيه، أحد كبار كلاسيكيي السينما الفرنسية، أواسط سنوات الستين، إلى فيلم حقق نجاحاً كبيراً واعتبر من قبل النقاد عملاً سيكولوجياً بقدر ما هو تشويقي بوليسيّ.
> مهما يكن، على عكس ما قد توحي الرواية وعنوانها، لم ينجز سيمنون كتابتها في نيويورك نفسها، ولكن في بلدة صغيرة بمقاطعة كويبيك الكندية خلال إقامة قصيرة له هناك عند بداية مرحلته الأميركية. ومع هذا فإن أحداث الرواية تدور في نيويورك من حول الممثل الفرنسي فرانسوا كومب الذي كان ذا شهرة لم تمنع زوجته الحسناء من أن تهجره مفضّلة الارتباط بآخر يصغره سناً. وإذ قصد فرانسوا نيويورك بحثاً عن النسيان سرعان ما يجد نفسه في إحدى الحانات مع امرأة غامضة حسناء تدعى كاي، ويتبادل الاثنان نظرات متعاطفة تنتهي بعلاقة بينهما تتراوح بين العلاقة الجسدية والعلاقة العاطفية الحقيقية. أما أمكنة اللقاء بينهما فثلاث غرف في حي مانهاتن تتتابع فيها علاقتهما على وقع توغّل كل منهما في التعرف إلى الآخر والكشف عن خيبات حياته الماضية. فلئن كان اللقاء الأول يتم في غرفة فندق يكتشف فيها الاثنان أن لكل منهما ماضياً يجعله أكثر من مجرد غريب يُلتقى به في حانة ليلية، فإن اللقاء الثاني يتم في غرفة فندق آخر يجابه فيها الاثنان حقيقة أن كلاً منهما بات متعلقاً بالآخر على رغم تلك الغيرة التي يستشعرها فرانسوا، إذ يكتشف أن المرأة وتدعى كاي هي في الحقيقة زوجة لسفير هنغاري وأماً لصبية، وأنها الآن في حاجة للسفر إلى المكسيك لعيادة ابنتها المصابة بمرض خطير. أما اللقاء الثالث فيكون في غرفة تقطنها كاي نفسها وفيها يكتشف كل من العاشقين أنه قد أساء الحكم على الآخر. والحال أن تلك اللقاءات الثلاثة هي محور هذه الرواية التي- على رغم ما فيها من تشويق وخطوط غامضة، سرعان ما يُتبيّن أنها لا تقود إلى أي مكان-، يمكن اعتبارها حكاية عاطفية تغوص في تحليل لعبة المظاهر والأحكام المسبقة. ومن هنا يمكن القول إن هذه الرواية تختلف إلى حد ما عن العديد من روايات سيمنون الأخرى لتبدو أقرب، مثلاً، إلى روايات غراهام غرين من حيث اشتغالها على العواطف والسلوك الإنساني، إنما انطلاقاً من فكرة كثيراً ما اشتغلت بقوة لدى سيمنون، ولكن في شكل موارب يمكن العثور عليه عبر الإمعان في النظرة التي يلقيها هذا الكاتب على شخصياته، بل على النوع الإنساني في شكل عام: نظرة تدعو إلى قبول الآخر كما هو من دون الاكتفاء بأي انطباع قد يمكن تكوينه من النظرة الأولى. فقبولنا بالآخر هو ما يضفي علينا تلك الروح الإنسانية وسهولة اللقاء التي يمكن العثور عليهما دائماً في ثنايا مواضيع جورج سيمنون، سواء كانت مواضيع بوليسية، تغلب عنده على أي حال، أو مواضيع عائلية أو «مجرد» حكايات غرامية سرعان ما يُتبيّن لقارئها أنها ليست، وفي أي حال من الأحوال، مجرد حكايات غرامية، ما دفع كثراً من دارسي أعمال سيمنون إلى التأكيد دائماً أنه «ليس الكاتب الذي تعتقدون».
> حين رحل جورج سيمنون عام 1989، كان من الواضح أنه لا يمكنه أن يكون واحداً من أولئك الذين يشعرون يوم يرحلون أن أيام حياتهم ضاعت سدى. فحياة سيمنون كانت مليئة حقاً، مليئة إلى درجة جعلت بعض سماتها يستحق أن يدخل في كتب الأرقام القياسية. ومن هنا ما يمكن قوله أن سيرة سيمنون هي سيرة أرقام في المقام الأول. ويمكن تلخيص هذه الأرقام في ثلاثة: قبل أن يبدأ سيمنون بكتابة الروايات الشهيرة التي تحكي مغامرات تحرّيه «ميغريه»، كتب أكثر من مائتي رواية وضعها بثمانية عشر اسماً مستعاراً. أما رواياته «الشرعية» التي حملت اسمه الحقيقي فقد بلغ عددها 214 رواية. وبهذا يكون هذا الكاتب البلجيكي باللغة الفرنسية، أكثر كتّاب القرن العشرين إنتاجاً على الإطلاق… كما يكون قد رفد السينما التي اقتبست عدداً كبيراً من رواياته (البوليسية وغير البوليسية) بعدد هائل من قصص أفلامها.
> غير أن هذا الواقع الكمي الفريد من نوعه لم يمنع النقاد من النظر إلى سيمنون على أنه كاتب كبير، وهو أمر نادر الحدوث بالطبع. ولقد بدأ اهتمام النقاد به منذ أصدر روايته الأولى الموقّعة باسمه في عام 1931، والتي كان التحري «ميغريه» شخصيتها المحورية. يومها وفور صدور الرواية أقبل عليها القراء بحماسة اضطر الكاتب إلى كتابة سبع عشرة رواية أخرى تروي مغامرات التحري نفسه، خلال السبعة عشر شهراً التالية.
> يومها كان سيمنون في الثامنة والعشرين من عمره، وكان من أغرب ما حدث له أنه وجد أندريه جيد يقول عنه: «إن سيمنون روائي كبير جداً، بل ربما كان أكبر كاتب باللغة الفرنسية اليوم». وهكذا جمع سيمنون المجد من طرفيه: نال حظوة لدى القراء وحظوة لدى أساطين الحياة الأدبية، وساند ذلك كله بقدرته الهائلة على الإنتاج فأضحى واحداً من أكبر وأهم الظواهر الأدبية في القرن العشرين. ومع هذا لم يكن سيمنون من الذين يضفون طابع العظمة على أعمالهم، بل كان لا يفتأ يردد أنه إنما يغرف دائماً من خمسة أو ستة مواضيع كبرى لا وجود لغيرها في عالم الأدب «الفارق ينبع من نظرة الكتّاب المختلفة إلى هذه المواضيع نفسها».
> ولد جورج سيمنون في لياج ببلجيكا من أسرة فرنسية/ بلجيكية مختلطة وبدأ عمله في الصحافة المحلية، وهو بعد في السادسة عشرة من عمره، وكان في التاسعة عشرة حين ارتحل إلى باريس بحثاً عن مستقبل له. وبدأ الكتابة بالفعل في 1922 حيث راح ينكبّ على طباعة ما يصل إلى ثمانين صفحة على الآلة الكاتبة يومياً، وظل ذلك هو دأبه حتى 1936 حيث كان قد أنجز أكثر من ألف وخمسمئة قصة قصيرة. ومنذ ذلك العام راح يركز أكثر على الروايات الطويلة وعلى مغامرات «ميغريه». وفي عام 1968 كان قد نشر أكثر من خمسمئة رواية طويلة باسمه وبأسمائه المستعارة.
> في عام 1945 رحل سيمنون ليعيش في الولايات المتحدة ردحاً من الزمن، ويكتب هناك العديد من قصصه التي نالت حظوة كبيرة حتى لدى الأميركيين- ومن بينها بالطبع «ثلاث غرف في مانهاتن» التي سوف تضحي من أشهر رواياته على الإطلاق بفضل السينما، ولكن أيضاً بفضل عنوانها النيويوركي-. ثم تنقل بعد ذلك بين فرنسا وسويسرا غير أن تنقّله لم يمنعه من مواصلة الكتابة والإنتاج في شكل يومي ومنتظم، وإن كان قد دفعه إلى التقليل من الروايات التي تحكي عن مغامرات التحري «ميغريه»، وإلى الغوص أكثر وأكثر في الروايات ذات البعد الدرامي والنفساني، حيث نجده في تلك الروايات وقد تمكّن من إبداع شخصيات ومواقف تستند إلى تكثيف لغوي لافت وإلى اقتصاد مدهش في الإمكانيات. ومن هذه الروايات نذكر «الأرملة كودرك» التي تعتبر دراسة نفسية أخلاقية في العلاقة بين الشخصيات، ويمكن أن نتوقف خاصة عند «الأضواء الحمر» و «موت الجميلة»، وهما روايتاه الأشهر اللتان كتبهما كرواية «مانهاتن»، انطلاقاً من جولته الأميركية وفيهما حلل أواليات مجتمع الاستهلاك وتأثيره في النفوس البشرية، قبل عقدين من الزمن، على الأقل، على فورة سنوات الستين السوسيولوجية التي ركّزت على مثل ذلك التحليل. أما روايته «الرئيس» فإنها دراسة ثاقبة حادة عن عالم النظم البرلمانية. غير أن هذا لا يعني أبداً أن سيمنون لم يعمد، حتى في رواياته البوليسية العادية، إلى وضع معالم تحليلية حول عالم السياسة والبورجوازية والسلطة والمال وغيرها. وهذا ما يجعل من مجمل أعماله نظرة تأملية في أخلاقيات القرن العشرين ويجعل المقارنة بينه وبين بلزاك في القرن التاسع عشر مقارنة مشروعة.
المصدر: العربية.نت