أمجد المنيف
أعتقد أن المهارات نوعان: فطرية، ومكتسبة. الثانية يمكن تعلمها واكتسابها من الحياة، بقدر جلدك تفوز بالتجويد، وهي نتاج من الدراسة والخبرة والمخالطة والأخطاء والتدريب. أما الأولى فهي ربانية، تولد معك، كأن تكون فنانا تشكيليا مثلا. تستطيع تعلم الرسم بالتأكيد، لكن هذا لا يخولك أن تكون فنانا، الإخراج السينمائي أظنه من الأشياء الفطرية، الحسية العميقة، التي تمكنك من رؤية الأشياء بطريقة مختلفة، بطريقتك.
قبل عدة أيام، حضرت فعالية «تجارب سينمائية» في «مركز الملك فهد الثقافي»، وكنت مستمتعا لأحاديث الضيوف، وهم يسردون التحديات التي واجهتهم، والصعوبات التي كانت ولا تزال تعرقل من تجويد الصناعة، وكيف كنا.. وأين نحن الآن!.
لفت انتباهي حديث الصديق توفيق الزايدي، وهو يوثق رحلة البدايات، ورغم أنه صاحبي إلا أنه كان يسرد تاريخا مغيبا عني، لم يسبق أن تشاركنا الحديث حوله، بطريقة آسرة وبإخراج سينمائي، تماما كما لو كان يخرج عملا جميلا مشابها لأفلامه. الذين يعرفون توفيق جيدا يدركون أنه لا يمكن أن يكون إلا مخرجا سينمائيا، أو هكذا أراه دائما.
في المرحلة الثانوية، وبعدما اقتنى الزايدي أول كاميرا فيديو له، تنازل عن المشاركة في دوري الحارة، واكتفى بتوثيق المباريات، ثم العمل على مونتاج متواضع، يشبه إمكانيات المرحلة، يتمثل في قطع التصوير الأرضي، ثم الصعود إلى سطح المنزل لأخذ زاوية علوية للمباراة، وبعد الانتهاء تتم عملية دمج الزاويتين مع أغنية مناسبة، ليكون العرض السينمائي للحدث بعد صلاة العشاء، والذي يحضره ثلاثة أشخاص في أفضل حالاته.
في أحد الأيام، بينما كان منغمسا في «منتجة» المباراة الجديدة، وإذ بباب غرفته يطرق بصوت عالٍ، مع صراخ والده الذي كان ينافس صوت الباب الخائف، قبل أن يدخل ويقذف الكاميرا للجدار بكل ما أوتي من غضب، حتى تفتت، اثم اصطحب الشريط وتوفيق لباب المنزل.. لتكون المفاجأة بالخارج تنتظره، جاره وابنه الذي يحمل هراوة، ويهم بالهجوم على توفيق، بذريعة أنه كان يصور أهله من السطح. انتهت التسوية بكسر الشريط، الذي كان بمثابة المكتبة والأرشيف لأحداث الحارة.. ومحاولات توفيق الأولى.
يقول الزايدي أن هذه الحادثة – التي لا تغادره – كانت المنعطف في درب الإصرار، حتى وصل للكلية، وحالفه الحظ بمقابلة دكتور يعي أهمية السينما، ساعده على التعلم، وكتب له توصية خاصة، ليحملها معه ويتجه لقناة «الإخبارية» في بداياتها الأولى.. هناك، احتضنه محمد التونسي، كما فعل مع أسماء كثيرة، وهي عادة أبي عبدالإله مع الجميع، ودعمه ووضعه في أول خطوط العمل الاحترافي، حتى مع وجود الفارق بين العمل التلفزيوني والسينمائي، إلا أنه تعلم كيف تكون الأشياء باحترافية أكبر، بعيدا عن عشوائية الحارة.
اليوم، الزايدي أخرج العديد من الأفلام، وشارك في الكثير من المهرجانات، وحصد بعض جوائزها، ويستعد لعمل سينمائي مختلف.. أخبرني عنه بشكل شخصي، وحرصني على ألا أخبر أحدا، وبالفعل التزمت، لم أقل لأحد. وإنما كتبت. والسلام..
المصدر: جريدة الرياض