حسام عاصي
حطمت الأفلام العربية في الأعوام الأخيرة أرقاما قياسية في مشاركاتها في أبرز المهرجانات العالمية على غرار «كان» و»فينسيا» و»تورنتو» و»برلين». وفاز بعضها بأهم جوائزها. كما ترشح خمسة عشر فيلما عربيا للأوسكار من دول عدة وهي لبنان، مصر، سوريا، موريتانيا، فلسطين والأردن، كان أولها فيلم الفلسطيني هاني أبو أسعد «الجنة الآن» عام 2007. إذاً كيف حدث هذا التطور السينمائي، رغم التحولات الاجتماعية والاضطرابات السياسية، التي شهدتها دول عربية كثيرة في الفترة الأخيرة؟
كانت مصر أول بلد عربي عرف فن السينما في أواخر القرن التاسع عشر، عندما عُرض أول شريط فيلم في مدينة الاسكندرية عام 1895. ومع أن السينما انتشرت لاحقا في دول عربية أخرى، إلا أن السينما المصرية ظلت تمثل العمود الفقري للسينما العربية وخلقت رابطا ثقافيا وحضاريا للهوية العربية. لكن قيود الرقابة وانعدام حرية التعبير وغياب النقد السينمائي حال دون تطورها لمستوى عالمي لتبقى محصورة في المنطقة العربية. فظلت، كغيرها من السينمات العربية، تعتمد غالبا على الميلودراما والغناء والرقص والتعبئة ضد الاستعمار الغربي والاحتلال الإسرائيلي بدلا من سبر القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة داخل المجتمع العربي. وقد اعتبرها مفكرون عرب تسلية فارغة استغلتها السلطات لتخدير الشعوب وليس حقلا للإبداع الثقافي أو الفكري.
ومع ظهور المحطات الفضائية، التي صارت تبث المسلسلات التلفزيونية التجارية عبر الساعة، وأقراص «دي في دي»، التي خلقت ظاهرة قرصنة الأفلام، في تسعينيات القرن الماضي وغياب قوانين حقوق الملكية الفكرية تدهورت السينما المصرية الى أدنى المستويات، دخلا، وفنا ومضمونا، بينما اختفت السينمات العربية الأخرى.
جيل جديد من السينمائيين
في بداية الألفية الأخيرة بدأ يظهر جيل جديد من سينمائيين عرب تدربوا في أوروبا والولايات المتحدة، قدموا أفلاما معقدة ومتقنة بأساليب إبداعية راقية وسرد غير تقليدي تعالج مواضيع اجتماعية حساسة وتطرح أفكارا تقدمية وإيديولوجيا حديثة مثيرة للجدل وأحيانا استفزازية. وتزامن مع ذلك ظهور مؤسسات خليجية، مثل السند وانجاز من الإمارات وقمارة من قطر، بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول أُسست لخلق سينما عربية على مستوى فني عالمي من أجل طرح وجهة نظر عربية للعالم من خلال التعاون مع مؤسسات سينمائية أمريكية وأوربية، على غرار معهد «صندانس» للأفلام ومعهد «ترايبيكا» ومهرجانات «برلين» و»كانّ» السينمائية، لتوفير الدعم المادي وورشات التدريب للسينمائيين العرب. وهكذا وُلدت السينما العربية الحديثة.
أفلام السينما العربية الحديثة استخدمت أساليب السينما الأوروبية والأمريكية وأحيانا أساليب أصلية لطرح مواضيعها، على غرار فيلم الفلسطيني إيليا سليمان «يد إلهية»، الذي ابتكر سردا لا خطي وساخرا في طرحه للواقع الفلسطيني، وكرّم بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كانّ السينمائي عام 2002. وفيلم الأردني ناجي أبو نوار «ذيب» المرشح للأوسكار، الذي استخدم أسلوب «الوسترن» في سرده قصة من التاريخ العربي الحديث.
لكن ما ميز أفلام السينما العربية الحديثة هو مضامينها الجريئة المثيرة للجدل، التي كسرت المحرمات في العالم العربي، على غرار فيلم المصري مروان حامد «حارة يعقوبيان»، الذي صدم الجمهور بطرح علاقة جنسية مثلية بين رجلين للمرة الأولى في تاريخ السينما العربية، وفيلم اللبنانية نادين لبكي «سكر بنات» ، الذي قدم نساء مستقلات عن الرجال واحدة منهن مثلية الجنس.
«أنا أستخدم السينما كسلاح لتغيير الوضع في المجتمع وشواذه، لأنني أشعر بالمسؤولية كإنسان يعيش في المجتمع»، تعلق لبكي، التي فازت بأهم الجوائز السينمائية العالمية عن أفلامها، من ضمنها جائزة جمهور مهرجان تورنتو السينمائي، وجائزة الحكام في مهرجان كان الفرنسي ورُشحت لجائزة الـ»غولدين غلوب» و»البافتا» البريطانية والـ»سيزار» الفرنسية و»الأوسكار».
كما تمحور فيلم المصري عمرو سلامة «أسماء» حول امرأة مصابة بمرض الإيدز تحاول التأقلم في مجتمع معاد، بينما قدّم هاني أبو أسعد في «الجنة الآن» المناضل الفلسطيني كمتردد في تنفيذ عملية انتحارية في تل أبيب، وهي صورة مخالفة لأفلام البطولة العربية التقليدية. أما المغربي نبيل عيوش، فقد صدم المغرب بالكشف عن ظاهرة سياحة الدعارة في فيلمه «الزين اللي فيك» وأُتهم بتشويه صورة بلده.
«أنا لم أصف المغرب كبلد دعارة»، يعلق عيوش. «هذه ظاهرة أردت أن أتطرق اليها، لأن تجاهلها وإنكار وجودها سوف يجعلها أسوأ وأسوأ. لا بد لنا أن نسلط الضوء على عيوبنا وشوائبنا لكي نواجهها ونعالجها. لا يمكننا أن نستمر بترويج فكرة أننا مثاليون. نحن نعاني من الأمراض الاجتماعية مثل غيرنا من شعوب العالم، وعلينا أن نتصدى لها».
عيوش وممثلوه واجهوا التهديدات والعنف من المجمتع، مما دفع إحدى ممثلاته الى الهرب من المغرب الى فرنسا، بعد الاعتداء عليها. بينما منعت السلطات الفيلم من العرض في صالات السينما.
لكن رغم نيل تلك الأفلام جوائز سينمائية عالمية ووصولها الى لأسواق الأجنبية إلا أنها لم تلق إقبالا من الجماهير العربية، وقلما حققت أرباحا في شباك التذاكر. لهذا تعتمد عادة على التمويل المشترك مع مؤسسات اجنبية وعلى أسواق خارج العالم العربي، حيث يوجد اهتمام بالسينما الفنية. ويعزو موزع الأفلام الفنية في الدول العربية، علاء كركوتي، ذلك لعدم وجود أو محدودية ثقافة سينمائية في العالم العربي. لكنه لا يلوم الجماهير، بل يحمّل الحكومات العربية مسؤولية الفقر الثقافي في مجتمعاتها.
«هذا شيء تراكم»، يعلق كركوتي، مدير مركز السينما العربي في القاهرة «الثقافة والسينما يكونا دائما في برنامج أي حكومة. الجانب الثقافي لا يقل أهمية من أي خدمة عامة أو لا يختلف عن الأكل».
خلافا للأفلام العربية والمسلسلات التلفزيونية السائدة، فان السينما العربية الحديثة ليست ترفيها وحسب، بل ثورة ثقافية تناهض المفاهيم المحافظة المتجذرة في الوعي العربي، لكنها قلما تنتقد الحكومات بصورة مباشرة، لهذا تواجه أكثر عداء واستنكارا من المجتمع أو الفئات المحافظة، وخاصة الدينية، التي كثيرا ما تحرم الأفلام وتتهم مخرجيها بالكفر والانحطاط الاخلاقي وبث المنكر وتشويه صورة العرب أمام العالم من خلال التسليط على سلبياتهم بدلا من إيجابياتهم.
أطفال الشوارع
«هل تعرف مقولة بتخبا وراء إصبعه»، تسأل لبكي، التي واجهت استنكارا بسبب طرحها واقع الأطفال المشردين في الشوارع اللبنانية في فيلمها الأخير، «كفر ناحوم»: «نحن نختبئ وراء اصابعنا. يعني نتباها بلبنان وخضاره ونتباها بالشعارات الكبيرة، ولكن في النهاية على الأرض يوجد شواذ كثيرة. أنا لا أدري كيف لبنان أو العالم العربي ما زالا واقفين على رجليهما وأستغرب أن الناس لا تأكل بعضها البعض وكيف تعيش مع كل هذا الشواذ الموجودة في كل مكان».
عمرو سلامة واجه أيضا انتقادات لاذعه لطرح مواضيع حساسة في أفلامه مثل «أسماء» و»بدون مؤاخذة» و»شيخ جاكسون»: «رقابة المجتمع أشد من رقابة السلطة لأن الجمهور في مصر والعالم العربي محافظ جدا. وهذا يخلق ضغطا كبيرا على أي فنان لأنه أصعب شيء هو أنك تفكر برد فعل الناس عندما تكون تكتب سيناريو فيلمك بدلا من أن تطرح أفكارك بحرية».
وهذا أيضا ما شعره المغربي عيوش بعد أنطلاق فيلمه الممنوع، «الزين اللي فيك». رد فعل الجمهور العنيف على فيلمي كان أكثر أهمية لي من ناحية فهم مجتمعاتنا وذهنياتنا. وهذا ما يجعل هذا الكفاح بالنسبة لي حتى أكثر أهمية لهذا السبب».
حتى في البلدان العربية، التي تخلصت من رقابة السلطة، مثل العراق وتونس، ما زال السينمائيون يواجهون رقابة المجتمع، التي يجدونها أكثر خطرا عليهم، حسب المخرج العراقي محمد الدراجي «رقابة المجتمع ورقابة الأحزاب الدينية والسياسية والشخصيات الدينية هي صعبة جدا. يعني أنا أحاول أن أكتب بحرية وأتناول ما أشاء ولكن أحيانا في خلف دماغي، أقول: انتبه يا محمد وإلا سيكون مصيرك الموت».
السينما فن، والفن هو طرح رؤية خاصة لفنان ما، قد تثير الجدل وتحقق تغييرا في المجتمع أو تحدث فنا أو تفكيرا على طرح رؤية آخرى وهكذا تتعدد الأفكار وتتطور الثقافات وتتبلور الحضارات. ففي المجتمعات المتحضرة تجد المحافظ والليبرالي، المتدين والعلماني، الشرقي والغربي يخوضون معارك فكرية بنّاءة وليست دموية مدمرة. لهذا كثيرا ما يترك السينمائيون العرب بلادهم ويستقرون في أوروبا أو الولايات المتحدة حيث يجدون الحرية الفكرية والفنية. «المتدين يريد أن يفرض رأيه على غيره ويلزمهم بفعل أشياء معينة غصبا عنهم، بينما العلماني لا يتدخل بشؤون المتدين ولا يفرض عليه رأيه»، يضيف سلامة. «لهذا أكثر شيء مختلف يحسه الشخص عندما يسافر خارج العالم العربي هو حريته أن يقول أي رأي في أي وقت في أي مجلس ومع أي بشر ويحس حتى لو كانوا متدينين ولا يوافقونك الرأي يتقبلون رأيك. لكن في وسط نفس الناس في العالم العربي ممكن أن لا يتقبلوا كلامك وكأن حدودنا حدود جغرافيه تضع ضغطا عليك بأن عليك أن يكون لك رأي معين وتحترم أشياء معينة أو أن لا تقول شيئا ابدا».
صدمة إلغاء مهرجانات
فضلا عن قيود حرية التعبير واجهت السينما الحديثة في الأعوام الأخيرة صدمة أخرى بسبب إلغاء المهرجانات الخليجية، التي كانت تعتبر سندا مهما لها في مجالات تمويل الانتاج والترويج والتسويق. أولها كان مهرجان الدوحة القطري، ثم تلاه مهرجان «أبو ظبي»، وفي العام الماضي أسدل مهرجان «ابوظبي» السينمائي ستاره، رغم تحقيقه نجاحا منذ تأسيسه عام 2003.
بعض صناديق الدعم العربي ما زالت موجودة وخاصة في دول المغرب العربي، حيث تقدم الحكومات الدعم المادي للمواهب المحلية. وقد انعكس هذا الدعم في مهرجان كان السينمائي الأخير، حيث جاءت معظم الأفلام المشاركة من تلك الدول. لهذا السينما العربية سوف تقتصر على جهود فردية في المستقبل القريب، وتعتمد على صناديق الدعم الأوروبية، التي سوف تستمر في فرض أجندتها على الواقع العربي من خلال طرح الأفلام العربية. وهذا يعني أن الحضارة العربية ستبقى رهينة بيد الأوروبيين، الذين نجحوا في استبدالها بحضارتهم، التي يعتبرونها أرقى وأفضل. إذ أن معظم السينمائيين العرب، الذين أحاورهم، لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم أو مناقشة فنهم باللغة العربية وبعضهم يعتبرون أفلامهم أوروبية ناطقة باللغة العربية. السؤال هو: هل توجد حضارة عربية هذه الأيام؟ وهل يمكن للحضارة العربية أن تنمو في ظل القيود على حرية التعبير ومن دون قبول تعددية الأفكار؟ وهل يمكن للوعي العربي أن يتطور إذا بقيت المسلسلات التلفزيونية الميلودرامية والأفلام الاستهلاكية مصدره الأساسي؟ وهل ستواجه السينما العربية الحديثة مصيرا مشابها لمصير الربيع العربي؟
المصدر: القدس العربي