واسيني الأعرج
الفن جوهر الإنسان النائم الذي لا توقظه إلا الأحاسيس الأكثر عمقًا ونبلاً وفيضًا.. فهو يتوغل في الأعماق محدثًا تحولات شبيهة بتلك التي تصاحب إعادة إبداع الأشياء من عدم.. يزلزل كل شيء ثابت فيها، يغيره بعمق، يفككه، ثم يعيد تنظيمه وتركيبه من جديد.. كانت مي زيادة هكذا.. فهي تحب، بل تعشق كل ما له علاقة بالفن.. من خلاله تشعر بجانبها الأكثر هشاشة والأكثر إنسانية.. كلما انغلقت سبل الدنيا، نهض الفن في داخلها، يفتح أمامها الدروب المضاءة، ويمحو الظلام.. باستثناء موهبة الكتابة المعروفة، فقد كانت مي متذوقة رفيعة للرسم كلما انتابها حزن، أو غضب، أو سوداوية، ذهبت مباشرة نحو الألوان.. الألوان تخفف من قسوة العزلة.. وإذا استعصت عليها الأشكال والألوان، ذهبت في حالات القلق القصوى، نحو الموسيقى.. البيانو الجميل كان يخفف من ظلمة الروح.. كانت تعزف عليه الكثير من كلاسيكيات الموسيقى الغربية.. تعلمت مي العزف على البيانو في مختلف الأديرة التي وضعها فيها والداها.. في هذا الزمن اكتشفت سيمفونية كارمن سيلفيا الحزينة التي ألفها يوسف ايفانوفيتشي (1845-1902) في سنة 1892. شعرت مي بأن حبلاً سريًا يربطها بكارمن سيلفا (إليزابيث باولين أوتيللي لويز دو ويلد، ملكة رومانيا) كثيرًا، ما كتبت عنها بتعاطف ظاهر..
في مقالة لها تحت عنوان كارمن سيلفا، كتبت تقول: إنها من الشخصيات النادرة في العالم، ترتفع بقيمتها المعنوية فوق كل علاقة زمنية.. الوطن بحدوده ضيق على هذه الشخصية، فوطنها الحقيقي هو العالم والإنسانية… رماها الناس بالتُّهم الفظيعة، ثم بقصور العقل والجنون، ذلك لأن نفسها الكبيرة بريئة صادقة، تحوم فوق الكثير من الإصلاحات البلهاء والأكذوبات الخبيثة.. ولما كانت الجمعية تكشر عن أنيابها، محاولة نهش تلك النفس النقية، كانت كارمن سيلفا تقصد صديقتها الجميلة (هلينا)، وتجلس الساعات الطوال بقرب ضريح ابنتها الوحيدة المتوفية (ماريا)، وتتكئ على مرمره باكية كمن يلتجئ إلى صدر حنون… هذه هي الأميرة الألمانية التي ظلمها قومها.. ابنة الغرب وملكة في الشرق.. أم لفتاة مائتة، وأم لكل من أحسنت إليهم، فأساءوا إليها… هي إحدى النساء الثلاث اللواتي أُكبر أسماءهن، وأضع عند أقدامهن إعجابي وإعظامي: هيباثيا، مدام ماري كوري، وكارمن سيلفا، لأنهن حققن وجود المثل الأعلى في النساء.
أنعرف الآن بسهولة لماذا أحبت مي سيمفونيا كارمن سيلفا التي فضلت الكتابة والترجمة، وعشق الحياة عن السلطة والحكم، قبل أن تتهم في نهاية عمرها بالجنون لكنها ظلت تصدح بالشعر على حافة البحر حيث بيتها الجديد.. كانت كارمن سيلفيا تحلم بأن تتحول إلى منارة للسفن المسافرة والقادمة، توجهها بترديد الشعر عبر مكبر الصوت.. كانت في خلوتها، تتحد مع روح ابنتها ماري، بمساعدة صديقتها الروحانية هلينا التي سافرت برفقتها، تاركة وراءها المُلك كله، وعندما عادت وجدت من اتهمها بالجنون، والمثلية السحاقية، وغيرها.
لم تكن تعني لها الوجاهة والسلطة أي شيء.. كانت مي تشتهي عزف كارمن سيلفا في خلوتها الحزينة وعزلتها القاسية، وعزف باخ أيضا الذي كانت كارمن سيلفا تحبه وتقدسه أيضاً.. كل هذا وجد في أعماق مي صدى كبيرًا لأنه يشبهها بشكل كبير إذ لا يمكن تفادي المقارنة.. بل تماهت فيه لدرجة عميقة..
ألم تكن مي امرأة استثنائية؟ ألم تمنح حياتها كلها للأدب ولم تلتفت لأملاك والدها إلا عندما دفنها أقاربها وأبناء عمومتها في العصفورية بسبب الميراث؟ ألم تُتهم بالجنون أيضاً؟ ألم تفقد أخًا لها في وقت مبكر، مما جعل داخلها فراغًا من رماد؟ ألم تكن مي كاتبة ومترجمة اختارت اسمًا مستعارًا للتأليف: إيزيس كوبيا..
الأقدار تصنع أحيانًا في سرها، ما لا نعرفه، لكننا نحسه ونكتب عنه، وكأنه يخصنا؟ بل وكأنه نحن في عزلتنا الوجودية.
المصدر: صحيفة المدينة