سلطان البازعي
أنتج الشاب منصور البدران شريط فيديو قصيراً نشره على «تويتر»، يتنبأ فيه بأن الصين ستصبح منتجاً ضخماً في سوق السينما العالمية ربما يتجاوز هوليوود بمراحل، ويشير الشريط إلى أن هذا التوجه له مبرراته الاقتصادية المنطقية، إذ إن نسبة الطبقة المتوسطة في هذا البلد البليوني قفزت من 4 في المئة عام 2000 إلى 54 في المئة عام 2012، ويتوقع أن تتجاوز نسبتهم 67 في المئة عام 2022 (النسبة في الولايات المتحدة هي أعلى من 50 في المئة بقليل هابطة من 61 في المئة عام 1971)، وهذا النمو في مستوى الدخل أسهم في زيادة إنفاق الفرد الصيني على مشاهدة الأفلام ليتجاوز ما ينفقه الفرد الأميركي، إذ حقق شباك التذاكر في الصين في الربع الأول من عام 2018 مبلغ 3,17 بليون دولار، بينما لم يحقق شباك التذاكر في أميركا وكندا إلا 2,85 بليون دولار، كما أن عدد شاشات السينما في الصين تضاعف من 20 ألفاً في 2013 إلى 41 ألفاً في 2017.
هذه الأرقام أغرت صناع السينما الأميركية بمغازلة السوق الصيني الضخم بإنتاج أفلام تصور في الصين وبمشاركة ممثلين صينيين، وخضعوا – كما أشار شريط البدران بذكاء – إلى الشروط الصينية، التي أملت عليهم إظهار الصينيين بشكل إيجابي وبأدوار البطولة، فتراهم يدعمون الجهود «الخيرة» للبطل جيمس بوند في محاربة الأشرار، كما تراهم ينقذون سفينة فضاء أميركية كادت تتعرض لكارثة، ولم يعودوا يظهرون كرجال عصابات تتقاتل في الأحياء الصينية على تجارة المخدرات.
والوجود الصيني الإيجابي في السينما الغربية ليس جديداً، ففي الستينات ظهر بطل الفنون القتالية بروس لي في أفلام حققت جماهيرية عالية، ربما كانت السبب في رواج رياضة الكاراتيه حول العالم، والكثيرون يعرفون نجم أفلام الحركة الكوميدي جاكي تشان، كما أن هوليوود تزخر بعدد من نجوم الشباك من أصل صيني على شاشاتها، ومنهم جون تشو وكين جيونغ ولوسي ليو، ومخرجين كبار مثل أنج لي، وجستن لي، وجون وو. وهؤلاء ليسوا بالضرورة من نتاج النظام القائم في الصين الشعبية، وإنما أتوا إما من تايوان أو هونغ كونغ، أو أنهم من أبناء المهاجرين الذين نشأوا في الغرب. لكن الجديد هو هذا الجهد المنظم الذي تدعمه الحكومة الصينية لتثبيت الحضور الصيني على الشاشات العالمية بصورة إيجابية لا تشوبها شائبة، ومن هذه الجهود دعوة صناع الأفلام الغربية لتصوير أفلامهم في الصين للاستفادة من السوق الهائلة، والدخول معهم في إنتاجات مشتركة، وفوق ذلك وضع استثمارات ضخمة في إنشاء مدينة إنتاج وأستوديوات قادرة على تلبية حاجة صناع الأفلام وشركات الإنتاج بأسعار منافسة وتقنيات متقدمة.
يقول المثل البدوي «الذئب لا يهرول عبثاً»، والذئب الصيني لم يركض في هذا الاتجاه عبثاً كذلك.
من يلاحظ سلوك السياسة الصينية الخارجية خلال العقود الثلاثة الأخيرة يجد أنها حافظت على قوتها العسكرية، بل وطورتها بترسانات متقدمة التقنية للدفاع والهجوم والردع، لكنها لم تحرك آلتها العسكرية إلى خارج حدودها ومياهها الإقليمية، ولم يسمع أحد للصين حساً في الصراعات الإقليمية المحتدمة حول العالم وأولها في الشرق الأوسط، كما أنها تستخدم حضورها في المنظمات الدولية بحساب دقيق للغاية، والفيتو الصيني في مجلس الأمن لم يذكر أنه استخدم لصالح أطراف أخرى، كما تستخدمه واشنطن لصالح إسرائيل مثلاً. والحضور الصيني في أفريقيا وآسيا هو حضور اقتصادي استثماري صرف غير معني بنشر العقيدة الشيوعية والترويج لها، ومشروع طريق الحرير الذي تتسابق الدول لمروره في أراضيها يصب في النهاية لتسهيل وصول المنتجات الصينية الكثيرة للأسواق العالمية.
إذن، لماذا السينما؟ ببساطة لأنها هي سفينة القيادة في أساطيل القوة الناعمة، التي تمخر البحار والمحيطات وترسو في كل قارة ميسرة وممكنة لمنتجات الصين وتقنياتها واستثماراتها في العالم، المال والقوة الاقتصادية هما ما يهم ولتذهب الشيوعية وأفكار ماو تسي تونغ وكتابه الأحمر إلى الجحيم. والاقتصاد الصيني في طريقه لتجاوز الاقتصاد الأميركي واحتلال المركز الأول بين اقتصاديات العالم، ولا يبدو أن شيئاً سيوقفه على رغم المحاولات الحثيثة في واشنطن.
اللغة هي السلاح القوي الثاني في ترسانة القوة الناعمة الصينية، وبينما لا تبذل الصين جهداً ملحوظاً لنشر اللغة الصينية كما يفعل الإنكليز والفرنسيون، إلا أن أعداداً متنامية في الغرب تُقبل على تعلم لغة هذه الأمة التي أحاطت حياتهم من كل اتجاه، وتقول تقارير غربية إن لغة الماندارين هي أسرع اللغات انتشاراً لتعلمها كلغة ثانية، ومن بين مشاهير من يتحدثون هذه اللغة رئيس وزراء أستراليا السابق كيفين رود ومؤسس ورئيس «فيسبوك» مارك زوكربرغ، ومالياً ابنة الرئيس الأميركي السابق أوباما، كما أن هناك 300 معهد رسمي لتعليم اللغة الصينية في العالم تتبع مباشرة لوزارة التعليم الصينية، إضافة إلى 480 معهداً تابعة لمؤسسة كونفيشيوس، وهي مؤسسة غير ربحية مرتبطة بالحكومة الصينية.
الصين منذ أن قررت القيام بالتحول الاقتصادي الكبير اعتمدت سياسة «أذن من طين وأذن من عجين» تجاه حملات النقد والتشنيع الغربية المرتبطة بحقوق الإنسان والحريات السياسية، ومضت بعمليات تنمية مكثفة، معتمدة مبدأ اقتصاد السوق، وتوسيع هامش الحريات الاقتصادية والفردية لمواطنيها، فأطلقت ملكات الإبداع، حتى حققت هذه النسبة العالية من الرخاء والتقدم لمواطنيها. ولذا، فإنها لا بد وأن تكون أنموذجاً ملهماً لإرادة التغيير والتقدم والتخلص من قيود الماضي دون التخلي عن المبادئ الثقافية الأساسية. ولعل هذا يكون مفتاح فهم القرار السعودي الجريء لإدخال اللغة الصينية في مناهج التعليم كلغة ثالثة، فاللغة الأجنبية بالنسبة لنا هي مصدر للتعلم واكتساب المعرفة، لكنها أيضاً تبعث رسالة للآخرين وخصوصاً في الغرب أننا نمسك بقرارنا في اختيار مصادرنا المعرفية، تماماً كما نمسك قرارنا السياسي والاقتصادي.
ولعل هذا أيضاً يكون مفتاحاً لفهم التوجه لجعل مدينة «نيوم» المستقبلية مركزاً عالمياً لصناعة السينما.
المصدر: صحيفة الحياة